بقلم : فالح حسون الدراجي …
لا أظن أن أحداً مهيأٌ للاختلاف مثل الشاعر جواد الحمراني..
فالرجل أنموذج للشخص المختلف مع الآخر، وطبعاً، ليس هناك آخر (محدَّد) لدى الحمراني.
فجواد ( الصدري القحّ )، مختلف مع ثلاثة أرباع التيار الصدري، وجواد الاسلامي المتجذر في العقيدة، مختلف أيضاً مع أربعة أرباع الإسلاميين من مقلدي المراجع الشيعية.. ناهيك من اختلافه مع أبناء المذاهب الأخرى.
والحمراني، الذي يعتبر نفسه صدرياً قبل أن يبني الشهيد محمد محمد صادق الصدر بيت التيار الصدري الشاهق والفخم، ويعتبر نفسه أيضاً (الرافض)، والثائر والمقاوم الإسلامي قبل أن يولد مؤسس فكرة الرفض والثورة والمقاومة الصحابي الخالد ( أبو ذر الغفاري)، هو في الحقيقة محط اختلاف أيضاً، فهناك القليل من الناس يعتبرونه صدرياً صافياً وافياً، فيمنحونه ثقتهم (الصدرية)، وهناك الكثير الذين يتجاوز عددهم عشرات الآلاف، وربما أكثر من هذا العدد، يعتبرونه منشقاً منحرفاً عن الخط الصدري.. وأنا – فالح حسون الدراجي – أختلف أيضاً مع جواد الحمراني في الكثير من النقاط، ومن بينها الفكر، والمعتقد، والرؤية، والآيدلوجيا، والموقف من بعض القضايا والأحداث والنظريات، كما أختلف معه في طبيعة الزوايا التي نقف فيها ونحن نطل على المشهد السياسي أو الثقافي، أو الوجودي، لكن، رغم كل هذه الاختلافات، فإننا لم نختلف يوماً !
بمعنى، أننا لم نتخاصم أو نتباعد أو نفترق، رغم وجود الكثير من المبررات الجاهزة والمهيئة للاختصام والافتراق في ما بيننا..
والسبب في ذلك يعود لأننا نعرف بعضنا جيداً، ونفهم بعضنا منذ ما يقارب أربعين سنة، فهو يعرف عقيدتي ويحترمهاً، وأعرف عقيدته وأحترمها كذلك، كما أنه يثق بي جداًـ وأثق به أكثر، لم نجرب يوماً أن نكذب على بعضنا، ولم يخن أيٌّ منا صاحبه، أو يثلم حقاً له .. فضلاً عن أن كلينا يحمي ويحفظ ظهر صاحبه، مهما كانت الظروف.
أذكر مرة أن – أحد زملائي الجاحدين – أراد أن ينكر حقاً أدبياً تاريخياً لي، وكان ذلك في ندوة ثقافية واسعة، كنت حاضراً فيها، وفجأة انبرى الحمراني من الصفوف ليرده بقوة، ويضيء الصورة الحقيقية التي أراد المتحدث تشويهها، أو لنقل أراد أن يغض نظره عنها بقصد أو بدون قصد.. علماً أن المتحدث كان صديق الحمراني جداً، وأحد السائرين معه على نفس الخط ( العقائدي)، لكن جواد المعروف بمثل هذه المواقف الشجاعة، لم يأبه لكل ذلك، وانتصر للحقيقة دون غيرها.
وهذه أول مرة أرى فيها ( أبا آيات) ينتصر لحق ما، بحضور صاحب الحق، فقد عرفته مدافعاً عن الحقوق حين يكون صاحب الحقوق غائباً، وهذه واحدة من مزايا جواد الحمراني المتجذرة فيه.
ربما يسألني البعض، إذا كنتما تختلفان في الكثير من القضايا والرؤى فعلاً، وكانت خطوطكما العقائدية والحياتية مختلفة أيضاً، كيف التقيتما إذن، وكيف توادد قلباكما، واصطفت مشاعركما مع بعضهما، فسرتما أربعين عاماً سوياً في طريق مزدحمة بالمنعطفات والصعوبات والخطوط المتقاطعة، وكيف حافظتما على علاقة طويلة دون افتراق، ثم كيف نجحت في الحفاظ على صحبة رجل يختلف مع الدنيا كلها، حتى يقال إنه مستعد للاختلاف مع نفسه إن لم يجد أحداً يختلف معه؟
هنا، وقبل أن أجيب على هذه الأسئلة، يتوجب توضيح نقطة مهمة، مفادها، أن جواد – المختلف – هو في جوهره متوافق ومتصالح مع نفسه أولاً، ومع قناعاته، وثوابته ثانياً، ومع الناس البسطاء كذلك، لذلك، هو مكشوف الوجه، لم يرتدِ قناعاً يغطي وجهه، ولم يضع طاقية الإخفاء على رأسه يوماً.. حتى عندما يريد أن يشتم أو يلعن أحداً ما، فلن يلعنه إلا جهاراً، وأمام الناس.. مع أن جواد حلو اللسان، وطيب المعشر، مثله مثل مظفر النواب وأحمد مطر، لا يشتم إلا عدواً يستحق شتيمته.
فضلاً عن أن أبا آيات واضح ومقروء الوجه والقلب والنفس، حيث يمكن رؤية أعماقه بالعين المجردة..
وللحق أيضاً، فإن الحمراني – المختلف – مع الكثيرين في العقيدة والرؤية والموقف، لا يتقاطع اجتماعياً مع المختلف معه.
أما النقاط التي تجمعني مع الحمراني، فهي كثيرة جداً.. أولها: حبنا وولاؤنا المشترك للعراق الوطن ، إضافة الى عشقنا المشترك للإمام علي ابن أبي طالب .. وانتمائنا لقيم الشعر، لا سيما شعرنا الشعبي العراقي الحقيقي، وفي جواد خصال عديدة هي ذاتها عندي، ومن بينها: كرهنا المشترك للبعث، ولصدام الطاغية، فكان أبو آيات يثق بي كثيراً، مرة أفشى لي سراً خطيراً، لو كان قد أفشاه لغيري لأعدم شنقاً عشر مرات، لكن سرَّه نام في خزانة قلبي حتى هذه اللحظة، وسيبقى هناك الى الأبد.. كما يجب أن أذكر أن جواد الحمراني الذي قضى نصف عمره مطارداً من أفراد الأمن الصدامي، وملاحقاً من عيون المخبرين، وبلاغات السلطات البعثية التي تبحث عنه في كل مكان، كان يزورني في البيت متخفياً بين حين وآخر – قبل أن أغادر العراق الى المنفى- فقد كان حريصاً على متابعة أصدقائه، وأكثر حرصاً من الجميع على رؤية أحبابه، رغم
قسوة ظرفه.. فكان يسألني عن محمد الغريب، ورحيم المالكي، وغني محسن، وحمزة الحلفي، وجليل صبيح، وعباس عبد الحسن، وسمير صبيح، ومهند أبو الهيل، وحليم الزيدي، وغيرهم من الزملاء والاحبة، وكان أيضا يسألهم عني حين أكون بعيداً عنه.
واليوم، حيث يرقد جواد الحمراني في غرفة الإنعاش في المستشفى، بعد أن داهمته (الذبحة القلبية) وأصابته الجلطة اللعينة، حيث يقال بأنه في وضع حساس ودقيق بحيث لم يسمح لي رؤيته عندما زرته في المستشفى أمس، ورغم كل ما يقال عن وضعه الصحي، فأنا واثق تماماً من أن جواد الحمراني، سينهض قريباً معافىً قوياً، ليعاود نشاطه الشعري المزدحم بالثورة والروعة والرفض والجمال..
نعم ، سيعود الحمراني أبهى وأشد بأساً وجمالاً – وقد قلت هذا الكلام لولده محمد أمس – وأعيده اليوم للجميع، سيشفى جواد الحمراني، لأن مثله لا يموت في المستشفى، أو على وسادة مرض، إنما يموت كما مات الثوار والمجاهدون الخالدون.. هل مات أبو ذر الغفاري والحلاج وسلام عادل ومحمد محمد صادق الصدر في مستشفى.. إذن كيف يموت تلميذهم وابنهم الحمراني في مستشفى ابن النفيس ؟!