بقلم : د. مظهر محمد صالح …
- 1ـفرضت الحياة الرافدينية تاريخ طويل من الهموم التي تحولت الى احزان عبر الالاف السبعة من تاريخ البشرية لتتبدل تلك الهموم الى نمط من الحزن الانساني دون ان تفقد حاضنة الفكر في بلادي جيلاً من المفكرين المبدعين مازالوا يجترحون هموم الحاضر واحزانه لبلوغ التفاؤل والسعادة والحرية . فالحزن كما يجده علماء النفس هو مشاعر إنسانية، تصيب الإنسان عند حدوث أمر غير سار أو مشكلات أو ظروف خارجة عن إرادته تضعه تحت ضغط نفسي، فلا يشعر بالراحة والاطمئنان، ويسبب غصة في القلب، فالحزن يكون على أمور حدثت بالفعل وهو أيضًا فطرة وضعها الله في الانسان ليفرح ويحزن، فهو ألم نفسي عكس الفرح، شبيه بالكآبة، فيؤثر على الإنسان بحيث يصبح أكثر هدوءاً واقل نشاطا ومنفعلًا عاطفيًا وانطوائيًا، ويصاحبه أحيانًا البكاء، ويكون الحزن لفترة مؤقتة وليست طويلة. ولكن عندما يصبح الحزن ظاهرة اجتماعية طويلة يتصدى له مفكرون من نمط خاص مناخهم التحليلي اعماق حضارة عريقة كيانها البشري ، انسان وادي الرافدين .
2-يتصدى المفكر العراقي الدكتور شاكر الكتّاب لمحنة في السلوك الانساني عنوانها <القضية> وهو يلتمس اليقين قبل ان تتفجر المحن ولايبالي في قضية الحزن ويتمسك في سماء التحليل قبل ان ترتفع اليها الاحلام. اذ يقول شاكر الكتّاب في القضية :
-ما قيمةُ المرءِ إلا قضيته التي تشغله ويعيش لأجلها. - فإن كبرت هي كبرت همته وإن تفهت كان مثلها تافهاً.
- قضيتك هي قيمتك ووزنك ومعناك.
-حجمك في عينيك وعيون من ينظرون إليك يأتي من حجم القضية. - تعال نقايض الزمن. نأخذ منه رسائله العظمى ونفاوض السماء على نجومها.
-وإياك ان ترضى بما دون النجوم.
-الحزب أهدافه هي قضيته التي يؤمن بها ويناضل من أجلها.
-فان كانت هجرتكم الى الوطن والناس فلكم في الوطن والناس منبت. - وان كانت هجرتكم للمال والسلطان فمعانيكم كلها كشجرة خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
-والشعب ذو القضية الكبرى كبير. - واذا صغرت النفوس صغر معها البشر وصارت قضاياهم كريح العنز.
- تابعوا تاريخ العظماء وتلمّسوا حجم الرسالة التي يتبناها العظيم.
-هذا النبي وهذا الإمام وهذا القائد وهذا الزعيم وتلك هي قضاياهم. - أسسوا أديانًا وبلداناً ومجلداتٍ وانحنى امامهم التاريخ بإجلال.
- هذه الشعوب التي بنت بلدانها وارتفعت حتى عنان السماء.
- وضعت يدها على البحار والمحيطات وتمسكت بتلابيب المستقبل كله.
- وتلك هي أجيالهم ترفل بالدمقسِ وبالحرير.
-ولأن قضاياهم المؤمنون بها ما عاد يستوعبها نهر او بحيرة بسطوا اجنحتهم على البحار والمحيطات.
-كل ذلك من عطاء جبروت القضية التي آمنوا بها ومنحوها ما تستحقه من تضحيات وأعطيات.
وينتهي المفكر الدكتور شاكر الكّتاب مستنتجاً:ان <القضية >هي الحياة كلها.
3- وجدت نفسي ملتحما بشغف في موضوع (القضية )ادراكاً ووجداناً
وبنظرة رقيقة غازْية وكاني في سماء تمطر تجارب حزينة بالتعاقب لاقول :
تسمو القضايا مع سمو المرء وترتفع بارتفاع قيمتها ، وينال المرء دركها الاسفل عند تفرغ القضايا من مضامينها الانسانية وتهبط بهبوطها . فهي متلازمة خصت عظام الناس عبر التاريخ مثلما وصم هبوطها الكثير ممن لفظهم التاريخ . … فالتاريخ البشري هو محطات تؤشر فيه قوة القضايا ليكون الانسان أُسا فيها ومن دونها تفنى القضايا .
6- يظل مسك ختام الرؤية الرافدينية والتطلع الى نافذة فكرية يخفق اليها القلب قبل العقل ويسند اليها صدق القضايا ليجسدها المفكر حسين العادلي .فبين العبرة والدهشة ،يتناول
الاستاذ العادلي موضوعا حساسا في السلوك البشري وبمفردة عنوانها:
< النَّزَق > قائلًا:
• نَزَق الصِغار (جَهالة)، نَزَق الكِبار (حَمَاقَة).
• النَّزَق نتاج (الخِفَّة). الخِفَّة فَقر عقل وطَيش سلوك.
• الفرق بين المُنَازِق والحَصِيف (الحِكمة)، ومكمن الحِكمة (البَصيرة).
• (النَصيحة) للحَليم، و(الرَدع) للنَزِق.
• لا يُعرَف النَّزَق إلّا في (القرار)، والقرار واقع ومصير.
• نَزَق (القيادة) بالغطرسَة، نَزَق (النُخبة) بالعُجب، نَزَق (العامَّة) بالاستغناء.
• الفوضَى نَزَق (الشعوب) التَّافهة، الحروب نَزَق (الدول) المهووسَة.
• كل ما تطلبه (حَماقة) الدول: نَزَق حاكم وسَفَه محكوم.
7- ختامًا ، تاتي لدغات الحياة بقوة غاشمة شحيحة الصبر تجلب المخاوف وكانها رقيب يرصد البشر من الداخل والخارج و تزحف اللدغات نحوك دون أمر، ضعيفة الايمان ،تتناقض مع الحب والسلام انه ( النَزَق) حقا…! . فعندما تتراكم سحب الظلام يجتمع عندها النزق ومن دون مواهب خارقة تستعصي على الادراك ، لاقول بنفسي :
(النزق )هو سلوك خطير في افق التصرفات البشرية. واشدها اثرا في تفكيك النسيج المجتمعي هو : التحول الجيلي في النزق .. ! فعند الصبيان يتسم بالخفة والطيش وينتهي مع تقادم العمر الى هوج وسفاهة . تعبر التصرفات النزقة في مراحل العمر المتاخرة عن ظاهرة العقل الميت وهو اقرب الى مقبرة الاغبياء.
اجد ان اشد حالات (النزق )اذى للمجتمع هو (الغرور الزائف والتوغل بالفخر الكاذب )ممن امتلكَ بين اظافره وراحة يديه شي من القوة فنهايته هي الغلواء ثم الحماقة ثم الزوال.
ختاماً: وبنظر ثاقب مسرباً بالاعجاب متحدياً القوى المتربصة للحرية ،تأخذنا مفردات مهمة تبعث على الذهول منجمها ثنايا الفكر والقلم الرافديني وقوامها رباعية : (القضية والعقل والقلب والنزق) فهي محطات تابعها تحليلاً مفكرو الرافدين في مجدنا الدنيوي قبل ان تمسي انحرافاتها وباءً اجتماعيا.