بقلم : د. مظهر محمد صالح …
في يوم ندي بدا المطر فيه يحمل عبق خريف طوكيو الذي افترش الارض بغزارة وهو يمسك بقبضته الرمز والخيال ليدق ابواب المدينة ويذكرها بانه جاءهم ليحفظ لهم هيبتهم في الحكمة و العبرة ويذكر الامة لتلبس معطف ابتسامتها دون ان يستخفها السرور ويفقدها دفء العلاقة بين الناس والتسابق في رسم المستقبل و تشكيل معالم يومهم المزدهر الجديد.
إعتلى الرز مائدة افطاري الصباحي في مطعمنا الذي طلت نوافذه على حراك الناس وهم يتوجهون بحزم الى ميادين اعمالهم دون ضجيج ولا كلام كثير وهم يتزاحمون على ابواب الحياة في ابتسامة عريضة اسمها الامل. تطلعت الى طبق الرز وقلت في سري، هل سيلاحقني الرز اينما اذهب سواء على موائد غذائنا في مدينتنا شرق المتوسط وانتهاءً بمائدة افطاري الصباحي في طوكيو في الشرق الاقصى! ابتسمت مضيفتي وهي عاملة المطعم ولسان حالها يقول ، نعم انه الرز…. ذلك المحصول العجيب الذي يستهلكه يومياً في وجباته نصف سكان الكرة الارضية سواء في اسيا او افريقيا او في بلادكم ، بلاد وادي الرافدين ! وانه المحصول العالمي الثاني في اولوية انتاجه بعد الذرة ، حيث يبلغ الانتاج السنوي العالمي من الرز قرابة 440 مليون طن متري وان الولايات المتحدة وعلى الرغم من كلفة انتاج الرز في اميركا وما يتطلبه من مياه واراضي واسمدة، إلا انها ضاعفت من انتاجها له بسبب تزايد اعداد مهاجريها الوافدين من بلدان الهند الصينية. إسترسلت مضيفتي في تفاصيل حديثها الشيق وهي تسرني…. بان طبق الرز الذي هو امامك يمثل الافطار الصباحي للامة اليابانية و يسمى (تومكو كيك كوهان) وقد زيُن حقاً ببيضتين نيتين واضيف اليه شي ْمن زيت الصويا .
غادرتني تلك الفتاة بأنحناءة جميلة وهي تقول لا تنسى فان افطارك هذا قد جعلك ضيفاً على الامة اليابانية ومشاركاً في عادات وتقاليد شعبنا الصباحية !! تناولت طبقي لا مفر منه بعد تلك الايضاحات المشرقة الباسمة وببالغ السرور، وتذكرت ان هذه البلاد تزرع الرز منذ عهد ما سمي (بالجومو) قبل ستة ألاف عام ميلادي.
كما ظل الرز في تاريخ اليابان يحمل اكثر من كونه مجرد مادة غذائية في تطور آلام حركة الامة اليابانية اوآمال توازنها الاجتماعي.
فقد عدَ ملاك الاراضي من مزارعي الرز ، من الوجهة التاريخية ، الطبقة الاكثر تميزاً في السلم الاجتماعي لليابان ، وهكذا ، حتى الوقت الحاضر ظلت الملكيات الزراعية المخصص زراعتها للرز سنوياً تمثل حوالي 85% من اجمالي المزارع اليابانية لتعبر عن الرقي الاجتماعي لاْرياف اليابان ومزارعيها. وان الحكومة اليابانية ما زالت توفر الدعم والحماية التجارية لمزارعي الرز بمستوى من الاهمية لا يقل عن الصناعة اليابانية. فقد تعرضت علاقات اليابان بمنظمة التجارة العالمية الى خلافات حادة لكون اليابان هي من بين البلدان القلائل في العالم ممن لا تسمح في تصدير رزها خارج البلاد او تسمح حتى باستيراده من الخارج الا باستثناءات محددة جداً.
تذكرت قدسية هذا المحصول في حياة الامة اليابانية يوم كان الرز لوحده دون غيره في العصر الوسيط مصدر صراع في تكوين حركة الاقتصاد السياسي والاجتماعي في البلاد ، إذ أعُتمد الرز في القرون الوسطى كسلعة نقدية نادرة…. تستعمل لجمع الضرائب وهي اداة نقدية بيد السياسة المالية. فقد أكدت لنا حقائق التاريخ الاقتصادي بأن إعتماد (الرز) كعملة نقدية ، قد اكد مجدداً ان النقود هي كائن سياسي لازم قيام الدولة ، ولا تولده إلا السيادة السياسية الممثلة بالمالية العامة. وان النقد دون مالية عامة تمسكه بقوتها السيادية يبقى الابن غير الشرعي لاي نظام اقتصادي!! وهو الحال الذي توصف فيه اليوم العملة الاوربية (اليورو) في ازمتها الراهنة ، اذ يوجد بنك مركزي اوربي واحد يصدر عملة واحدة هي عملة اليورو للبلدان السبعة عشر المنظوية تحت خيمة الاتحاد النقدي الاوربي وغيرهم ولكن امام ذلك اليورو ثمة سبعة عشر ادارة مالية متناثرة السيادة ومختلفة في الارادة السياسية !!
وصفوة القول ، فقد حملت عملة الرز في وحدة السيادة اليابانية تشتت آلام مزارعي اليابان من دافعي الضرائب الى اولئك الحكام من اقطاعيي القرون الوسطى ، مثلما كان يحدوهم الامل في اْنتاجه و السير في حمل وحدة أصرارهم على العمل لاْطعام انفسهم من اجل البقاء في واحدة من اصلب امم الارض سراً في الحفاظ على النوع الانساني….
نعم ، فبالرز وحده تحيا الامم….!! انها الامبراطورية اليابانية.