بقلم : د. مظهر محمد صالح …
كان سوق البزازين وسوق دانيال في بغداد في خمسينيات القرن الماضي يزدهران بالمنسوجات الرائعة التي تداعب الذوق بدون استئذان يذكر، وبألوان من طيف يدرك سر افتتانه الصارخ من ضوء مصابيح السوق نفسه. أمسكت بأمي التي التفت بعباءتها الداكنة السوداء التي أحاطت رأسها وعنقها حتى أسفل قدميها باستثناء بصرها اللامع وأنا مازلت أمسك بقوة طرف عباءتها كي لا أفقد بوصلة طريقي معها في ذلك السوق الذي اكتظ بالنسوة المتبضعات من كل صوب. ولم أجد شكا في هويتهن لأن الجامع لهن هو ذلك الرداء الأسود الذي التفت به النساء كافة وكأنه زي مدرسي موحّد.. إنها حقاً قطع بشرية مغلفة بالسواد المطلق تتحرك على طرفي السوق مثل أفواج النمل، تتجمع وتتفرق أمام مخازن الأقمشة والتبضع المزدهرة الساطعة بألوانها. وتلامسك بين الحين والآخر وخزة قوية من أحد الحمالين ممن وضعت على اكتافه لفائف الأقمشة الحريرية وغيرها.. وكأنما يحمل على منكبيه أو ظهره طيفا لونيا أخفى معالم شقائه لشدة اختلاط الضوء المنبعث من دكاكين القماش بعضها البعض.. ولم تستطع أن تعرف من معالم ذلك الحمّال ككائن بشري سوى أرجله المتحركة الضاربة في الأرض. قلت في سري إنهم الفقراء الطيبون الذين تكَفنهم اليوم أقمشة الحياة المزدهرة الألوان وهم من شق أحدهم الصفوف متحركاً عبر المارة ويطلق صيحة واحدة مكررا صداها..انتبه!! إنها كلمة يكررها وهو مجهد السير مقاوماً المارة برجليه الحافيتين بعد أن تصلبت ملامحه من شدة التعب قبل أن يتقاضى أجره وقوت حياته!. توزعت افكاري المتضاربة في سوق البزازين واختلطت يومها ضوضاء الناس بالألوان. وبين حركة الكتل النسوية الملتفة بالعباءات الحالكة السواد، وألوان الأقمشة الزاهية التي استباحت السوق من كل زاوية عبر سلاسل الدكاكين الثابتة وحركة الحمالين وهم محملون ببضائع مختلفة الطيات ومتنوعة الألوان، فلم يتشكل في هذا الفضاء سوى القوى الصانعة للسوق وفرصها السعيدة المربحة. اختلط وهج الضياء الذي زحف سراً من زوايا أحد الدكاكين ليشع من مرآة قرب بابه، عاكساً شعاع الشمس المائلة من أحد سقوف السوق. فتوقفت أتطلع الى اللون الجديد الذي جاءت به السماء من خارج ألوان طيف سوق البزازين، وأنا ما زلت أمسك بطرف العباءة السوداء، لأكتشف بعدها ان ذيل العباءة السوداء التي أمسك بها هي ليست عباءة أمي! إذ التفتت تلك المرأة العنيفة بعد أن تقيض وجهها حنقاً وتجهماً قائلة لي: ابحث أيها الصبي عن أمك!.. وما كان عليً إلا أن أرميها بصرخة مكتشفاً ان عباءتها السوداء، هي من جنس آخر وانها ليست البوصلة التي اهتدي بها سبيلي، انها عباءة سوداء أخرى ليست عباءة أمي! ولا تحمل مشاعر الامومة نفسها ولا هي العباءة التي التف بها التي تقيني الحر اللافح والبرد القارس انها عباءة مختلفة مختلفة حقاً!!. تزحزحت الى الوراء وأنا في خيبة الضياع وتزاحم العباءات السوداء الداكنة، وأنا أبحث عن حل لذلك اللغز الضائع على قطعة الشطرنج السوداء ذات المربع الواحد. ولم أستطع وأنا في متناول الهم والخوف أن أميز حينها بين الليل والنهار بعد أن اختفت الالوان كلها وغاب طيفها في تلك العتمة المتحركة من النسوة… وفجأة امسكت امي بيدي وهي تتنهد في خيبة عميقة ورمقتني بريبة قائلة: ستبقى الى جانبي يا بني دوماً واياك وان تفقد بوصلتك مرة أخرى وتمسك بعباءة امرأة أخرى غير امك! اجبتها بخوف: كلا! لن أمسك بغيرك وانا أواصل السير معها بخطوات ثقيلة.. ولم تفلح يومها زفرات الخريف الرطبة في تلطيف ذلك الجو المشحون بالخوف والاسى، وأمسيت حينها كالممزق الذي يقتله الأقوياء اويهزأ به الضعفاء. ختاماً، وإن اختلفت العباءت باختلاف النسوة، لكن ظلت جميعهن بلون واحد ومذاق واحد. فالعباءة هي واحدة.. وامهات بلادي هن أم واحدة..!!