بقلم: كاظم فنجان الحمامي ..
حسناء من قرى (السيبة). كانت تختال بأناقتها بين بساتين النخيل الباسقة. عشقها رجال البحر وشغفوا بحبها. فأحبتهم ووفرت لهـم الدفء والمأوى. .
لاذت بها السفائن بقلوعها ومراسيها من كل حدب وصوب. فكانت صلة الوصل بكل الذين ركبوا البحر، وزينوا جيدها بقلائد اللؤلؤ. فهي الواصلية التي نسجت جسور الوصل والمحبة بين مرافئ الفيحاء وأغوار الخليج. وكان الوصول إليها غاية المسافرين والمهاجرين. .
سميت بهذا الاسم نسبة إلى واصل بن عطاء الغزّال، الذي كان رأس فرقة (الواصلية)، وهو أيضاً من مؤسسي (المعتزلة): فرقة كلامية نشأت في البصرة، وظهرت في بدايات القرن الهجري الثاني، واستقرت في هذا الموضع. .
غرست الواصلية جذورها في واحتها الريفية المحاذيـة لضفاف شط العرب، والمجاورة لنهر الزيّادية. وشيدت لها رصيفاً خشبياً مـن سيقان أشجارها بإزاء بساتين (عباد بن الحصين) التي كانت تقع على الضفة المقابلة لها. وكان (عباد) متيماً بجمالها، فحاول أن يغريها بحقوله التي أطلق عليها أسمه بعد أن أضاف إلى الأسم حرفي الألف والنون، ليصبح (عبادان). وذلك على النهج الذي انتهجته المدرسة البصرية في تسمية البساتين والأنهار. وخصص لها في الضفة الأخرى حقلاً مزداناً بأزهار التوليب والنرجس، أسماه (أبو وردة). ويسمونه الآن (بو وارده Bawarda). فاختارت الواصلية الوقوف بينه وبين منعطف قرية (سيحان)، التي ولد فيها (الجاحظ). ثم تحسنت ملامحها عام 1908 على اثر التغير الذي أعقب اكتشاف الذهب الأسود في حقول (مسجدي سليمان)، وتبدلت أحوالهـا عـام 1912 بعد قيام شركة النفط البريطانية – الإيرانية ببناء أرصفة استقبال الناقلات في واجهة عبادان. فتوسعت قريتها وتحولت إلى قاعدة ملاحية
عراقية، ومحطة صغيرة للإشراف على عمليات إقلاع وإرساء الناقلات التي كانت تتردد على مرفأ عبادان، ومن ثم إرشادها عبر ممرات شط العرب، وقطعت الموانئ العراقية آنذاك شوطا كبيرا في تنفيذ الواجبات المنوطة بها على الوجه الأكمل. فاستخدمت لهذه الغاية السفينة العراقية (هرمك) التي كانت تتولى الإشراف على سير العمليات البحرية في مرفأ عبادان، وتأمين الاتصالات اللاسلكية بناقلات البترول القادمة والمغادرة، وإيواء المرشدين البحريين العراقيين وربابنة المرفأ. فازدهرت الواصلية وتحسنت ظروفها شيئا فشيئا، حتى صارت من المدن المينائية المتميزة بطرازها الريفي الجميل. وربطت لأول مرة بخطوط الطاقة الكهربائية وخطـوط التلغراف. وبنيت فيهـا المنازل الحديثة والحدائق والمتنزهات. وشيد فيهـا منتدى ترفيهي للعاملين في الموانئ العراقية. وواصـلت الواصلية صلتها بأبناء البصرة، فكانت محطة استراحة للباحثين عن المتعة البريئة، الذين كانوا يشدون إليها الرحال في السفرات المدرسية للتمتع بجنائنها التي تسر الناظرين. لكنها وللأسف الشديد، تحولت الآن إلى أطلال تنعق فيها الغربان، وخرائب يعشعش فيها البوم. وباتت مرتعا للخنازير البرية المتوحشة. وتشبعت أجواؤها ومياهها بالملوثات التي تنبعث من مداخن ومجاري المصافي النفطية في عبادان، التي ما انفكت تنفث سمومها في الماء والهـواء. وسحقتها عجلات الحروب التي أحرقت الزرع. ودمرت البساتين التي لطالما تباهت بجداولها العذبة، وظلالها الوارفة، وحقولها الزاخرة بغابات النخيل وأشجار السدر والتين والبمبر. فاُقتلعت أشجارها من جذورها. وتحطم مرفؤها الصغير، فهجرتها السفن. ولم تعد تمارس أي نشاط ملاحي. وتحولت تلك الواحة الغناء إلى مستنقعات آسنة، تخيم عليها السحب الموشحة بالسواد، والمعبئة بالغازات الخانقة. لتحرق ما تبقى من مزارعها. وتتلف ثروتها السمكية. وتزيل كل معالمها الجمالية
التي كانت صفة ملازمة لهذه المدينة الريفية منذ القرن الثاني الهجري. .
تلكم هي قصة الواصلية التي كانت وما تزال صلة الوصـل الوثيقة بالتاريخ الملاحي والزراعي والفكري للبصرة الفيحاء. .