بقلم : فالح حسون الدراجي …
في سنوات الشباب، لم نكن نشعر بالحزن رغم وقوفه على أبواب ونوافذ قلوبنا ليلاً ونهاراً، فقد كنا نتسلح لمواجهته، بالحب والشعر والغناء، لاسيما وقد كان ثمة أصدقاء رائعون يحيطون بنا، فكانت حياتنا مزدحمة بالجمال والمحبة، ولا مجال فيها للكآبة قط..
ولما غادرت العراق الى الولايات المتحدة قبل ربع قرن تقريباً، فارقت تلك الكوكبة الجميلة من الشعراء والفنانين الأحبة، وكان من الطبيعي -بعدهم- أن أصاب بأمراض الغربة، وأولها الكآبة، وهنا لم يكن أمامي دواء غير اللجوء الى السيجارة والكأس، ألم يقل الشاعر الكبير كاظم اسماعيل الگاطع، على لسان العندليب العماري كريم منصور :
(خلصت الحياة أتسلى بثنين ..مرة بالجكارة .. ومرة بالكأس )؟!
لكن الظروف القاسية لاحقتني، فاستكثرت عليّ حتى (الجگارة والكاس)، إذ تعرضت عيني قبل خمسة عشر عاماً الى مشكلة خطيرة، أصبحت أمامها بين خيارين طبيين لا ثالث لهما: إما السيجارة أو العين؟
فاخترت عيني طبعاً، وهجرت السيجارة !
أما الكأس، فقد صرت أزوره في المناسبات والاعياد الوطنية كما يقولون .
وفي ظل هذا الجحيم لم يعد لحياتي معنى، بعد أن فقدت سلوتها، ولمعانها، ونظارتها، فكدت أتحول الى غصن يابس تكسره نفحة ريح، فما نفع حياتك وأنت البعيد عن بلادك وأهلك، وأصحابك، ومنقطع عن الحب والفن، والسيجارة والكأس ؟
فهل سأستسلم ؟
طبعاً لا، إذ كيف يستسلم رجل عنيد مثلي ؟
فكان فريق برشلونة، بسحره، وجماله علاجاً لي من هذا الخلل والملل اللذين داهما حياتي بغفلة من الزمن!
فالتزمت بالعلاج، حتى أصبح فريق برشلونة الكاتلوني ينافس الشعر عندي، بل بات عشقي الكبير.. وطبعاً فقد كان للفتى ليو ميسي نصيب عظيم من هذا العشق الباذخ.. حتى بت أنتظر قدوم (الويك أند) الإسباني بفارغ الصبر، كي أشاهد البرشا، فتراني يومها أعد نفسي لمشاهدة المباراة، إعداداً تاماً، ولا أسمح لأي كان، أن يفسد عليّ روعة هذا الموعد (الغرامي)، فأحلق معه بأجنحة من الدهشة والخيال، مأخوذاً بروعة (التيك تاكا)، ومسحوراً بأداء ميسي، وفنيات نيمار، وأهداف سواريز المبهرة، ورشاقة تشافي وانستا، وغيرهم.. وما أن تنتهي المباراة حتى تجدني شخصاً سعيداً لطيفاً متفائلاً متعافياً، خالياً من العقد، وآثار الاضطرابات الحياتية، ومشاكل العراق السياسية والإقتصادية والاجتماعية والسيادية، وبمعنى أدق فإنك ستجد أمامك غير ذلك الشخص المتوتر المأزوم والمحتدم الذي رأيته قبل المباراة، خصوصاً حين يفوز البرشا.
والسبب، أن (برشلونة) يسقيك من سحر أدائه في التسعين دقيقة، نبيذاً جنونياً، يبعدك عن همومك وأوجاع غربتك، ويزيل عن أعصابك كل التوترات والضغوطات، فينتعش شعورك، وتتجدد خلايا الأنسجة المعطوبة لديك، بعد كل الإحتكاكات والانفعالات اليومية.
هذا ماكنت عليه قبل حدوث ( النكسة)!
ومثلي كان الكثيرون حتماً.. لكن، فجأة وقعت النكسة بوقوع زلزال كورونا، فاهتزت بعض الأندية الكبيرة، وكان نادي برشلونة أحد هذه الأندية التي أصابها الزلزال، حتى كاد يلامس خط الإفلاس!
وبما أن القطريين جاهزون دائماً للتنافس بالمال الوسخ، وشراء الذمم، والأصوات، والقرارات، فضلاً عن إنهم يضمرون الحقد لبرشلونة، بعد أن سحق البرشا ناديهم (اللقيط) سان جيرمان بنتيجة 6 – 1 في ربع نهائي أبطال أوربا قبل خمس سنوات، ولم ينسوا تلك الضربة الساحقة، فقاموا أولاً بشراء نيمار، ليفككوا البرشا، بعد أن أعموا أباه بصفقة مالية خيالية، وفي الوقت ذاته، ظلوا يتربصون لاصطياد النجم ميسي حتى جاءتهم الفرصة، فقاموا باستغلالها استغلالاً (شايلوكياً) خبيثاً، فقدموا لميسي وأبيه عرضاً مالياً لا يصمد أمامه أي لاعب آخر، وطبعاً فقد وافق ميسي للأسف، وسقط في شراك هذا العقد الجهنمي.
وكانت نتيجة الصفقة موجعة للكرة، ولبرشلونة، وللجماهير الكروية في كل العالم.. نعم فقد وقع برشلونة، وها هو يئن من الكسر، ومعه يضيع ميسي أيضاً، إذ لم يعد ذلك الـ(ميسي) الذي كنا نعرفه، فهو اليوم لاعب آخر، لم يبق منه سوى اسمه، وبعض البقايا من بقاياه أجل، فميسي اليوم يلعب بلا شهية، ولا مزاج، بعد أن حوله (ناصر الخليفي) الى لاعب ثانوي مساعد للصبي إمبابي !
لاشك أن الجميع خسر بسقوط برشلونة، ولم يستفد أحد من انهياره، بما في ذلك غريمه ريال مدريد.
لقد كان أداء وعزف برشلونة جميلاً وممتعاً وفريداً يشبه الى حد ما موسيقى بتهوفن، التي تعشقها الشعوب جميعاً دون تحديد.. وما ضياع برشلونة إلا كارثة كونية جمالية، وليست كاتلونية فحسب.
وها هي نتائج هذه الخسارة تظهر جلية في بؤس الحضور الجماهيري العالمي، وضعف مستوى الليغا الاسبانية، وغياب المتعة التي كان يوفرها برشلونة لمئات الملايين من عشاق الكرة في العالم..
كما أن الخسارات بدأت تطرق أبواب نادي سان جيرمان نفسه، فها هو الخليفي يبحث عن مشتر لنيمار، بعد أن هبط مستواه، وسيبيعه بخسارة حتماً، وقد يبحث غداً عن مشترٍ لميسي نفسه، بعد أن تأكد له أن ميسي اليوم ليس ميسي الأمس، وأن عملاقاً مثل ليو لا يمكن أن يكون ظلاً لصبي مغرور مثل أمبابي !
ربما يقول لي البعض: ألم تر في المقابل، فريق مانچستر سيتي الرائع الذي لايقل عن مستوى برشلونة.. ألم تشاهد سحره وجماله، وروحه الوثابة، لاسيما في مباراته مع أستون فيلا، وماذا فعل المدرب (غوارديولا) من أعاجيب في عموم الدوري الإنجليزي، خصوصاً وان المجموعة التي يدربها اليوم، مكتنزة بالمواهب والإبداع؟
وجوابي: نعم، فغوارديولا مدرب عظيم، والسيتي فريق كبير وهائل، ويمكن لغوارديولا أن يؤسس في إنگلترا أو غيرها، فريقاً رائعاً يشبه برشلونة، ولكن هل يقدر هذا الرجل على صناعة ليو ميسي ثانٍ، ليو ميسي السحر والكمال والجمال المطلق؟
أشك في ذلك، فميسي برأيي الشخصي خرج ولن يعود بعد عشرة أجيال كروية..