بقلم : جاسم الحلفي …
لم يسلم الشاعر الكبير مظفر النواب من تطاول الطائفيين، الذين أعماهم التعصب والشوفنية والكراهية فلم يبصروا مواقفه الوطنية، ووصموه بما يميزهم هم من ادران الطائفية فنعتوه بالطائفي.
لقد أعماهم التعصب والشوفنية والكراهية فلم يبصروا مواقف النواب الوطنية. ويبدو ان اجماع العراقيين بمختلف قومياتهم واديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم السياسية وخلفياتهم الفكرية على تحية شاعرهم وهو يرحل، وعلى التعبير عن الحزن والأسى لرحيله، هو الثائر بوجه المستبدين والشوفينين.. يبدو ان هذا الاجماع أغاظ عموم الطائفيين في العراق. وزادهم غيضا ان العراقيين عدّوه كنزا وطنيا فريدا، وثروة أدبية وثقافية لا تضاهى، وشخصية ملهمة. وهو في الوقت نفسه صوت بسطاء الناس والناطق بهمومهم، وستبقى سيرته نبراسا للمناضلين وبوصلة لربط القول والفعل، ورصيد كفاح ضد الجور والظلم والحرمان، ومن اجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
وعديدة هي أسباب انزعاج سليلي الاقطاع من مظفر ونتاجه الثقافي، لعل اولها الطبيعة الطبقية التي تعد من ابرز سمات شعره، وتتجلى في انحيازه الجلي للكادحين والمهمشين وقضاياهم. فيما كانت هناك القراءة المادية للتاريخ التي استند عليها في استعارته للأحداث من التاريخ العربي الاسلامي وتضمينها في شعره، والتي كان قد كتب فيها اليساري المصري أحمد عباس صالح، والباحث الفلسطيني بندلي جوزي، واختص بها المفكران الشيوعيان البارزان العراقي الراحل هادي العلوي، واللبناني الشهيد حسين مروة الذي اغتالته الايادي الآثمة الطائفية ايضا في لبنان.
وقد انتج الأخيران مع طلابهم نهجا بحثيا جريئا ومتميزا، مقدمين قراءة أخرى للتاريخ العربي الإسلامي، ومبيّنين من خلالها ان التاريخ ليس سرد احداث متفرقة ولا هو سيرة خلفاء وولاة، وانما هو كشف لصراع بين من يملك ومن لا يملك، وإثبات لكونه صراعا تناحريا، لم يتوان فيه الحكام عن سفك الدم المحرم من اجل التربع على قمة السلطة. فلم يتورعوا من ممارسة كل أساليب البطش والترهيب والترغيب، ولم تردعهم القيم السماوية التي يدعون التمسك بها، من ارتكاب الفواحش من اجل السلطة.
ان مواقف من حبّب لهجة أهلنا بالجنوب لم ترُق لمن انحاز الى مقبور طائش زعم يوما ان سكنة الاهوار تم استيرادهم مع الجاموس، ولن تروق لامثال من حاول تجريد اهلنا من الاصالة السومرية. وكيف يروق لهم شاعر برع في جعل لهجتنا لغة لأغاني ونصوص تغنى بها الكردي والسرياني والكلدواشوري كما العربي في الموصل وتكريت وسامراء والفلوجة، فحولها من مادة لسخرية غلاة الشوفينين المتعصبين المنغلقين، الى مفردة للرقة والعشق والجمال، بعد ان شحنها بعاطفة صادقة ووضعها في صور شعرية مدهشة لا تتكرر.
والمضحك في كتابات البعض عند تعرضهم الى النواب، هو اعتراضهم على وصيته بالدفن في مقبرة وادي السلام، مصادرين حقه في اختيار موقع رقدته الأخيرة، التي أرادها تجاور الامام القائل «النّاسُ صِنْفانِ: أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ». الامام الذي يؤم مرقده الفقراء والمعوزون حفاةً منهكين يرتدون الاسمال، متضرعين اليه ان ينصرهم على الجوع الكافر، كما كتب الشهيد حسين مروة في احد مقالاته.
ولا رد على مزاعم الطائفيين أبلغ مما اظهره العراقيون من أسى صادق لخسارتهم النواب، والحزن الذي شمل العراق من اقصى جبل في أربيل مرورا ببوادي الأنبار وحتى البصرة العزيزة. ولا نبالغ اذا قلنا ان لكل عراقي قصته وعلاقته الخاصة مع النواب. والنواب يبقى لكل العراقيين، وستظل اشعاره تنعش المناضلين وتطارد الظالمين، ويظل جرح صويحب مفتوحا نازفا، ومنجله يترصد القتلة ويسد عليهم الدروب.