بقلم : فالح حسون الدراجي …
أجزم أن لجميع أبناء مدينة الثورة ارتباطاً عاطفياً ووجدانياً مع ثانوية قتيبة للبنين، بما في ذلك الذين لم يدرسوا فيها !
أما الذين أسعفهم الحظ وانتسبوا لها، طلبة كانوا، أو مدرسين، فحدّث عن مشاعرهم بلا حرج..
نعم، إن لثانوية قتيبة موقعاً بارزاً في قلوب وضمائر أبناء مدينة الثورة، لما لهذه الثانوية من أهمية كبيرة في بناء مجتمعهم، ولما لعبته من دور تربوي وتعليمي وثقافي ونضالي ليس في واقع وحياة هذه المدينة فحسب، إنما في عموم المجتمع العراقي الكبير.
لقد كان لثانوية قتيبة شخصية مميزة، وكيان استثنائي، وديناميكية فاعلة وأساسية في بنية التعليم الثانوي العراقي، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى هذه اللحظة، على الرغم من التراجع الكارثي، والإنهيار غير المعقول الذي حصل في مؤسسة التعليم، منذ أن أقرت السلطات البعثية نظام تبعيث التعليم، وعسكرة الفكر الطلابي، بحيث اصبح تخرج الطالب من احدى دورات المغاوير في الجيش الشعبي، أو جيش القدس، أفضل بكثير عند السلطات البعثية من التخرج من كلية الهندسة أو كلية القانون !
كما كان انتساب الطلاب الى منظمة فدائيي صدام آنذاك، أمراً لا يقدر بثمن، فهو أفضل في رأي (القيادة) من الإنتساب الى جامعة السوربون الشهيرة !
أما أسباب التراجع المخيف للمستوى التعليمي في العراق، فتتوزع على عوامل عديدة من بينها، الحروب العبثية، ونتائجها الإجتماعية المدمرة، وقسوة الحصار الأمريكي الظالم، فضلاً عن انعكاسات الاعدامات، والإعتقالات السياسية، وتأثير أُسر عشرات الآلاف من الجنود والضباط على تربية الأبناء المنسيين في العراق، كما كان لهجرة أكثر من خمسة وعشرين ألفا من الكفاءات وأصحاب الشهادات الأكاديمية والتدريسية، والطبية والعلمية العالية، الى خارج العراق، دور بارز في تدني المستوى التعليمي في البلاد، حتى بات اليوم 90٪ من الطلبة العراقيين لا يفهمون ما يقرؤون، ولا يفرقون بين معنى (دار دور) و (قدوري قاد بقرنا)! وطبعاً فإن هذا الكلام ليس من عندي، إنما هو من البنك الدولي الذي نشره في بيان رسمي قبل أقل من اسبوع.
وعودة الى موضوع تأثير ثانوية قتيبة في تنوير حياة الناس في مدينة الثورة، وفي عموم مسيرة البناء والتقدم العراقي، مقارنة بغيرها من المدارس الثانوية، او حتى الجامعات في العراق والبلدان المجاورة، سنجد – حسب الأعداد والأسماء والنتائج – أن الكفة في ثانوية قتيبة أثقل من غيرها!
وقد يحاججني البعض هنا ويطرح اسم ثانوية كلية بغداد، كواحدة من أهم الثانويات في العراق، بل والمنطقة، لا سيما في مستويات المتخرجين منها، علمياً وقيادياً..
وأنا لن أنكر أهمية هذه الثانوية، ولا أنفي علو كعبها الدراسي والعلمي.. ولكن ثمة فرقاً كبيراً بين قتيبة، وكلية بغداد، له أهمية بالغة، يتمثل في ان آباء طلبة ثانوية قتيبة هم من العمال، والفقراء الكادحين، ومن الجنود، والكسبة الذين لايحصلون على قوتهم اليومي، إلا بشق الانفس، بينما نجد في المقابل أن آباء طلاب كلية بغداد، هم من رؤساء الوزارات، والوزراء، والسفراء، والأعيان، وكبار الملاكين، والاقطاعيين، وقادة الجيش، والشرطة.. وللمقارنة مثالاً، لا حصراً، فإن من بين طلبة قتيبة نجد الشاعر كريم العراقي ( ابن عودة لعيبي) عامل الكهرباء الذي يوزع راتبه على الدائنين قبل أن يصل به الى البيت، ومع كريم في نفس الصف والثانوية، نجد الشاعر والمؤرخ وعالم الأنثربولوجيا، خزعل الماجدي، ابن ذلك الكادح القادم من فقر وضيم الناصرية، ومعهما كان في ثانوية قتيبة أيضاً، اللاعب الدولي الكبير فلاح حسن، ابن الفلاح المزارع القادم من أرياف ميسان، وفي الصف الدراسي نفسه، والمدرسة نفسها، نجد الكاتب والباحث الكبير رشيد الخيون، ذلك الفتى الوديع الهادئ، القادم من عذابات هور الچبايش، وسنجد بين هؤلاء الطلبة أيضاً، الروائي المبدع عبد الله صخي، ذلك الفتى اليتيم الذي انتصر بقوة على الحواجز والمعوقات المعيشية والسكنية الصعبة، واصبح رقماً مهماً في الرواية العراقية.. وأتذكر، كنا في السبعينيات ندرس أحياناً في بيت عبد الله- أنا وكريم العراقي والقاص عبد جعفر، والقاص داود سالم، وكان المطر يتساقط علينا في الشتاء من سقف تلك الغرفة الصغيرة، فتقوم أم عبد الله -رحمها الله- بوضع إناء كبير أو (طشت) تحت زاوية السقف المثقوب، ثم يقوم أحدنا بإفراغ الإناء من ماء المطر بين الحين والآخر، ورميه خارج البيت.
ولو ذهبنا الى كلية بغداد آنذاك، فسنجد طلبتها من نوع وحياة آخرى تماماً، إذ أن آباءهم ومراتبهم وبيوتهم مختلفة تماماً عن حياة كريم العراقي والباقة التي ضربنا بها المثل قبل قليل ..
إذ سنجد في كلية بغداد، الطالب أحمد عبد الهادي الچلبي، ابن الوزير عبد الهادي، وحفيد وزير المعارف عبد الحسين الجلبي، وشقيق وزير الاقتصاد رشيد الچلبي.. كما كان في ثانوية كلية بغداد الطالب عادل عبد المهدي، نجل وزير المعارف السيد عبد المهدي المنتفجي. وفي كلية بغداد أيضاً الطالب أياد محمد علاوي، حفيد حسين علاوي أحد كبار التجار العراقيين، وأبرز الشخصيات في الدولة العثمانية التي كان يسمح لها بمخاطبة الباب العالي العثماني مباشرة.. وللدكتور أياد ثلاثة أعمام شغلوا مناصب وزارية ومقاعد في مجلس الأعيان ايضاً!
ومن طلبة كلية بغداد، الطالب نجم الدين السهروردي، زوج ابنة رئيس الوزراء رشيد عالي الگيلاني، وابن محي الدين السهروردي أحد كبار قادة الجيش العراقي، بل وأبرز مؤسسي هذا الجيش ..
أنا هنا لا أبتغي الإساءة الى طلبة كلية بغداد لا سمح الله، خاصة وأن فيهم من يستحق الإشادة والتقدير، لكني فقط أردت ان أقارن بين المستوى المعيشي العالي وما متوفر لأبناء الذوات، والمستوى المعيشي القاسي لأبناء الفقراء، فأقارن بين مدرسة، فيها طالبان من أب (يبيع شلغم) في سوق العورة، ومدرسة، فيها طالبان شقيقان من أب (يعمل رئيس وزراء فقط)، اسمه حكمت سليمان ! ورغم أن المقارنة غير متكافئة بين المدرستين، لكن الجميل أن نرى المدرسة الفقيرة (قتيبة)، رغم كل الظروف القاسية، قدمت للعراق أروع العلماء وأجمل الشعراء وأفضل الأدباء، وأبهى الشهداء.. نعم فقد قدمت قتيبة عشرات الشهداء من الطلبة الشيوعيين واليساريين، لكنها ستكافأ للأسف، بعد كل هذا العطاء الثر، بأن تقوم إحدى مديريات التربية، بهدم التاريخ الجميل لهذه المدرسة، وتحويلها الى ( مول ) تجاري مقابل ( ……. ) !
فيا للعار .. !
أذكر كنت في السنوات الماضية، وكلما أمر على ثانوية قتيبة، التفت نحوها بحب، وأضرب لها البوق ( الهورن )، وكأني أرسل تحية شكر وعرفان لهذا الكيان الذي قضيت فيه سنة دراسية كاملة (في الصف الأول متوسط عام 1966)، ثم عدت اليها في ( الصف الرابع الثانوي عام 1970) بصحبة هذه الكوكبة الجميلة، بعد أن انهيت الدراسة المتوسطة في متوسطة (المصطفى)
لكني غداً، وبعد أن تصبح قتيبة (مولاً تجارياً)، ماذا سأفعل حين أمر على مكانها، هل سأضرب لها البوق كما كنت أفعل سابقاً، أم سأذرف دمعة على تلك التي تستحق الدمع؟