بقلم: فالح حسون الدراجي ..
رحل عنا أمس، الفنان الكبير محسن فرحان، تاركاً وراءه تراثاً ثراً، عطراً، من الحب والجمال والإبداع والمآثر الفنية والوطنية والإنسانية والأخلاقية ..
لقد تعرفت به قبل حوالي 49 عاماً .. اما علاقتي الفنية به فقد تواصلت عبر تسع أغنيات مختلفة..
وعذراً لو تجاوزت الحديث عن علاقة نصف قرن من الزمن بكل ما في هذه السنين من أحزان وأفراح وليال ملاح، وما فيها من تفاصيل وجزئيات لن تكفي لها سطور هذه المقالة المحدودة حتماً..
وعذراً أيضاً إن تجاوزت الحديث عن مزايا محسن فرحان الفنية والإبداعية، سواء في قدرته وصياغاته الموسيقية التي تجلت في أعماله التي ستبقى خالدة بخلود الجمال والدهشة الإنسانية، أو في تميزه وخصوصيته اللحنية، التي باتت تشكل علامة فارقة في سجل الغناء العراقي الباهر، لكني سأتحدث اليوم فقط عن علاقة أبي ميديا بالحزب الشيوعي العراقي، تلك العلاقة السرية التي ربما لم يعرفها أحد !
وأجزم أن الذين يعرفونه معرفة عامة وسطحية، سيستغربون هذه العلاقة، خاصة وأنهم يعرفون أن محسن فرحان لم يكن يوماً شيوعياً قط، بل ربما كان اسمه (مسجلاً) في سجلات حزب آخر، وأكرر (ربما) لأني لست متأكداً من ذلك!
نعم، سيستغرب الكثير من الناس الذين لم تتح لهم الفرصة في الاقتراب من مشاعر وعواطف ووجدان وقلب وعقل وروح محسن فرحان ، ولم يغوصوا مرة في أعماق الرجل ليجدوا أي جواهر كريمة مخبوءة في تلك الأعماق الحرة، ولو كانوا قد اقتربوا كما اقتربت من روحه السامية، النقية، لاكتشفوا مثلي حقيقة محسن فرحان، ولأدركوا أن الرجل كان شيوعياً من الوريد الى الوريد !
نعم، فقد كان شيوعياً في المضمون والسلوك والضمير الطاهر .
صحيح أن محسن فرحان
لم ينتمِ للحزب الشيوعي، ولم يدفع اشتراكاً أو تبرعاً للحزب يوماً ما، وربما لم يكن يعرف شيئاً عن المادية الجدلية، أو عن (فائض القيمة)، ولم يقرأ رأس المال، أو كتاب عشرة أيام هزت العالم، وحتماً أنه لم يطلع على البيان الشيوعي، وقد لا يعرف ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي وبليخانوف معرفة جيدة، ولم يفهم جوهر شخصية المؤسس فهد، أو يسمع بخالد بكداش او شهدي عطية أو فرج الله حلو من قبل، لكني واثق تماماً أن الرجل يحمل في شخصه جميع مؤهلات وقيم وأبجديات الجمال الشيوعي، سواء من النواحي الإبداعية الاستثنائية التي يتميز بها المبدع الشيوعي، أو من النواحي الوطنية والانسانية والأخلاقية، وأقصد بذلك الحس الوطني العالي، والاخلاص للشعب، والنزاهة، ونكران الذات، وحب الفقراء، والوفاء، والانسانية العالية التي قلما أجد مثيلها في غيره..
مثلاً، بعد رحيل زوجته المرحومة أم ميديا، وبتر ساقه بسبب ( السكري)، وعدم وجود من يساعده، اضطر لاستخدام شخص بنغلادشي يقوم على خدمته، وحين اشتد عليه المرض قبل أيام تحدثت معه تلفونياً، فوجدته يبكي، وحين سألته عن سبب بكائه، قال لي: إذا مت، من لهذا البنغلاديشي المسكين بعدي، إذ من يعطيه راتبه، ومن سيجدد له إقامته.. ولم يطمئن ويهدأ حتى أقسمت له، بأني سأتكفل بهذه المهمة!
كان محسن فرحان هشاً ضعيفاً أمام دمعة طفل في علي الغربي، أو صرخة أم في سوق الشيوخ، أوأنين أب مفجوع في شهربان، أو عوز شاب في القوش .. إنه كائن رقيق مثل (جنح فراشة غض)!
استقبله مصطفى الكاظمي قبل ثلاثة أشهر، وحين سأله إن كان محتاجاً لشيء؟
فأجابه شاكراً وهو يخرج منه: أنا بخير يا دولة الرئيس..
لقد منعه كبرياؤه أن يطلب منه شيئاً رغم عوزه وحاجته!
أذكر مرة قال لي هامساً: هل تعرف يافالح أني أحب الحزب الشيوعي العراقي جداً، حتى أني غنيت للحزب الشيوعي عام 1959 عندما كنت تلميذا فتياً، إذ كنت وقتها مغني ومنشد المدرسة في محافظة كربلاء؟
علماً ان الراحل أبا ميديا قد ذكر هذه المشاركة أيضاً للرفيقين العزيزين مفيد الجزائري وفاروق فياض عندما زاراه في بيته قبل حوالي شهر تقريباً..
قبل سنتين، طلبت منه أن يلحن أغنية (حزبنا نبض الگلوب) في ذكرى مولد الحزب الشيوعي السادسة والثمانين، وما أن اخبرته بذلك حتى وجدت وجهه يضيء بالفرح، والسعادة.. لذلك جاء لحن الاغنية جميلاً وحنيناً بصوت النجم عدنان البريسم..
وقبل فترة طلب مني محسن فرحان بلسانه، أن يلحن أغنية ( آني مو شيوعي)، وحين وافقت على ذلك – وأنا فرح وسعيد بطلبه هذا – بدأ في تلحينها منذ الدقيقة الاولى لاستلامه النص.. رغم مرضه!
والجميل في الأمر، أنه كان (زعلان) على الفنان العزيز محمد عبد الجبار وقتها، لأن ( أبو ابراهيم) سجل بعض الحانه مثل (يگولون غني بفرح ) وغيرها دون ان يستأذنه، وهو أمر بات طبيعياً لمطربي هذه الأيام، لكن القضية مع محمد عبد الجبار تختلف، لكون محمد فناناً كبيراً وصوتاً غنائياً فاخراً، وهو واحد من الجيل الذهبي للغناء العراقي.
وحين أقنعت أبا ميديا، وافق على ان يسجل محمد اغنية (آني مو شيوعي)، لكنه ظل زعلاناً عليه، وحين سمع الرجل أداء محمد الباهر بعد انتشار هذه الأغنية، اتصل بي أبو ميديا وهو يقول باكياً: هذا شنو محمد، شمسوي شمغني من روعة، هاي شنو ها الأداء الرائع .. ثم صمت لحظة وقال: أبو حسون بلغ الأخ محمد ابو ابراهيم، باني مو زعلان عليه، ومتنازل عن كل شيء لخاطر الحزب الشيوعي اولاً، واعتزازاً بهذا الأداء الجميل لأبو ابراهيم ثانياً..
ختاماً.. كنت قد اتفقت قبل فترة مع أبي ميديا على أن اكتب نصاً غنائياً يلحنه في عيد الميلاد المقبل للحزب الشيوعي، منطلقاً من لازمة غنائية شهيرة كان يحبها ويرددها الشهيد الخالد سلام عادل تقول: ” يا الرايح للحزب خذني .. وبنار المعركة ذبني .. برگبتي دين أريد أوفي عن اسنين المضت عني ” وأكمل أنا النص بعدها، فأنا أريد أن أحيي هذه اللازمة الرائعة التي رددها الرفاق في السجن ليلة توديع سلام عادل عند انتهاء محكوميته..
وكان رد محسن فرحان على طلبي:
هذا شرف عظيم لي ولك يا فالح !
لكن محسن رحل أمس، فمن سيلحن لازمة سلام عادل الأثيرة ؟
سؤال أخير أوجهه للراحل أبي ميديا: هل أنت متأكد من أنك لم تكن شيوعياً؟
أنا أشك في ذلك !