بقلم: كاظم فنجان الحمامي ..
لقد توارثت عوائل البصرة العمل في عرض البحر، وتركت بصماتها على رمال الجزر الممتدة مـن رأس (البيشة) في شط العرب إلى رأس (مسندم) في مضيق هرمز، كانت الملاحة مهنتهم وهوايتهم، وكان الغوص في الأعماق السحيقة رياضتهم المفضلة، وكان البحر ملعبهم ومدرستهم ومصدر رزقهم، ومقبرتهم السومرية القديمة. دفنوا موتاهم في (دلمون)، وخبؤوا أسرارهم في كهوف (خارك)، أرهقتهم الأمواج المتلاطمة، فلاذوا بسفنهم بين (فيلكا) و(بوبيان)، واستلقوا فوق رمال (وربة)، ثم رفعوا أشرعتهم بوجه الريح في الليل الضرير. فاتجهوا شمالا نحو مرسى (السراجي) في البصرة الزاهـرة بموانئها وقصورها وأسواقها وجنائنها وجداولها، بيد ان المسالك الملاحية الطويلة المؤدية إليها لم تكن بتلك السهولة والبساطة، وكانت تستدعي الاستعانة بمن لديهم الخبرة والدراية، فقد كانت الممرات المائية في شط العرب في منتهى الصعوبة والتعقيد، وكانت السفن الأجنبية المتوجهة إلى العراق تواجه مشقة كبيرة في الاستدلال على المسالك الآمنة، واجتياز تشعباتها الغامضة، التي لا يستطيع فك شفرتها إلا الذين تعلموا فنون الإرشاد في مدرسة شهاب الدين احمد بن ماجد، وسليمان المهري ، والنواخذة المتأخرين، كانوا خليطا متجانسا مـن قبائل الأزد، والادارسة، والقواسم ، والعتوب ، والنصّار ، وتميم. تراهم يمتهنون الملاحة البحرية، ويبرعون فيها، ويعشقون الترحال بمراكبهم عبر ممرات شط العرب ومنعطفاته. فاستعانت بهم شركات خطوط الشحن البحري لضمان وصول سفنها بأمان إلى مرسى الخورة. فكانوا من أفضل الأدلاء البحريين المتمرسين بقيادة السفن في المسالك الضيقة ، والمياه الضحلة. .
ومن بين تلك العوائل الملاحية العريقة نذكر عائلة الحاج رجب مصطفى، ذلك الملاح الذي عمل في بداية شبابه ضابطا بحريا في أسطول الخلافة العثمانية في حوض الخليج العربي. ثم صار في بداية القرن الماضي مرشدا بحريا متخصصا بإرشاد السفن البخارية مـن فنار شـط العـرب (في عرض البحر) إلى أرصفة العشار ، ومرافقتها ثانية عند مغادرتها نحو البحر. لكنه ترك مهنته مُكرهاً على أثر توغل سفن الأسطول البريطاني في مرافئ شط العرب بُعيد الحرب العالمية الأولى. وأعلن الحاج رجب رفضه الانصياع لأوامر وتوجيهات الغزاة، فعرض عليـه قائدهم راتبا مجزيا مقابل العمل معهم، فأبى الملاح العجوز أن يفرط بخبرته ويبيعها بثمن بخس للانكليز، الذين استباحوا أرض العراق، فأمضى ما تبقى من حياته في تعليم ابنه (محمد سليم) المبادئ الملاحية وأسرارها، وسار هذا الشاب على خطى الأجداد الأفذاذ، وراح يتسلق سلم النجاح والتفوق خطوة خطوة، حتى صار مرشدا بحريا وربانا مرموقا متخصصا بإرساء ناقلات النفط العملاقة على أرصفة الموانئ النفطية في خور العمية، والميناء العميق. وكان ابن شقيقته مرشدا بحريا، ويدعى عبد القادر أحمد (أبو فوزي)، اما زوج ابنته فكان هو الآخر مرشدا بحريا، وهو الربان (صلاح خطاب)، ونذكر أيضا المرشد مضر الإدريسي، نجل المرشد البحري نوري الادريسي، وحفيد المرشد البحري الأسبق محمد الإدريسي، وكان أشقاء محمد الإدريسي (ياسين ، ومحمود) من المرشدين البحريين في بداية القرن الماضي، فالمرشد محمود الإدريسي هو جد المرشد البحري رياض احمد الإدريسي. .
واشتهرت في شط العرب عوائل أخرى احترفت الملاحة، وأتقنت فنونها، ومعظمهم ينتسبون الى قبيلة (البو صالح). الذين كان آخرهم المرشد البحري (الكابتن نجم الصالحي)، وأذكر منهم المرشد البحري صالح محمد الملقب بـ(صالح إسونت) للدلالة على قوته وشجاعته، وكان الفرس يتهيبون منه، ويسمونه (أسد البحر)، وهو زوج شقيقة المرشد محمد حسين الصالحي، والد المرشد جاسم الصالحي (أبو الدكتورة نيران)، ولمحمد حسين الصالحي اثنتين من البنات تزوجن من مرشدين بحريين، فقد تزوجت الأولى من المرشد يوسف محمد حاجي وهو خال المرشد البحري عبد السلام عبد الرسول الصالحي، وتزوجت الثانية من مدير الشؤون البحرية (فارس بدر السهيل) وهو والد رئيس المهندسين البحريين تحرير فارس. وبمناسبة الحديث عن المرشد عبد السلام الصالحي، نذكر انه تزوج مـن كريمة المرشد البحري جاسم كرم، وهي حفيدة المرشد البحري الأقدم محمد كرم. ومحمد هذا هو عم المرشد البحري احمد عبد الرحيم كرم. .
وكانت عائلة النوخذة الحاج حمزة في القرن التاسع عشر، من أشهر العوائل البحرية العراقية، وكان المرشدون عبد الله حمزة، ومحمد حمزة من ابرز أبناءه، إما أحفاده فهم جاسم محمد حمزة (مدير الشؤون البحرية الأقدم)، والربان طارق حمزة ، والربان فاروق عبد الله حمزة. وكانوا يمثلون نخبة رائعة مـن شيوخ الملاحة وأساتذتها الكبار. .
ولقبيلة السعدون حصة الأسد، أذكر منهم: المرشد البحري الأقدم: فهمي حمود السعدون، ونعمة محمد، ومحمد تركي سراي، وفيصل مطلك، وعبد القادر ذياب، وصباح ثويني، وعامر عدنان، وسامي نجم، وثامر خلف، وآخرهم حسام سلمان السعدون. .
ولأسرة (السعد) حصـة لا يستهان بها في هذا الإرث البحري ، فقـد كان عميدهم الربان احمد السعد، رائدا في هذا المضمار، ومنهم المرشد البحري عبدالله السعد، وابـن عمـه الربان خلف السعد. امـا بيت الـداغر وهـم مـن (كنانة) ، فكان جدهم محمد محمود داغر ربانا ماهراً، وابنه منتصر، وسبقه ابنه الاكبر المرشد البحري مؤيد، ومن بعده حفيده مهند الذي تطوع في سلاح القوة البحرية العراقية، وبرع في اختصاصه البحري. وهكذا كانت الملاحة إرثا بحريا متأصلا في وجدان وقلوب أبناء البصرة، الذين امتهنوا الملاحة، وعلموها لأبنائهم وأحفادهم. .
وللحديث بقية . .