بقلم: فالح حسون الدراجي ..
توفي قبل ثلاثة أيام الشاعر الجميل، والإنسان الأجمل، والشيوعي الفائق في الجمال علي العضب.
لقد رحل هذا الكنز البصري المجنون بحب العشار، وسوگ المغايز، وسوگ حنا الشيخ والتنومة، والكورنيش وشارع الوطني وساحة أم البروم، وسوگ الخضارة، والمفتون حد الهوس، بل وحتى الذروة بحي مناوي باشا والأثل وأبي الخصيب والمعقل والطويسة، وخمسة ميل والجمهورية، والموجوع بآلام حفاة الحيانية وفقراء القرنة والمدينة وبقية مناطق الضيم والأسى في البصرة.
مات علي العضب العاشق للجمال، والعابر بإنسانيته وإبداعه حدود الخيال، والمتصل نبضه ووعيه وحتى ( لا وعيه) أيضاً، بكل ما يمت للبصرة من خيوط الحب والجمال، فتراه (يحيا ويموت) في البصرة، بدءاً من حي الجزائر المكتنزة حدائقه بالصبايا الطالعات نحو جنائن الحياة، مروراً بمنطقة الجمهورية التي تضم بيوتاً (شعرية وفنية) راقية وعالية الإبداع، مثل بيت الشاعر العذب أبو سرحان، المرصعة أبوابه بلآلئ الشعر الثمينة، وبيت التشكيلي(العالمي) فيصل لعيبي وشقيقته الرسامة اللامعة عفيفة لعيبي، ذلك البيت المزدحمة جدرانه بصور، وخطوط، وألوان سريالية، قبل أن تصلنا سريالية بيكاسو، وهناك أيضاً بيت الشاعر الشهيد فالح الطائي، المفتوحة نوافذه أبداً لشعاع شمس الحرية، ونسائم الحب والنقاء والطيبة البصرية.
رحل علي العضب عن عمر ناهز السابعة والسبعين، وعطاء ناهز المستحيل، حتى تخطت روائعه العدٌ الذي لا يمكن عدٌه، سواءً من أوبريتات كان له السبق في انبثاقها، أو من أغنيات ظلت قريبة من قلوب العشاق العراقيين حتى هذه اللحظة، أو من قصائد عالية أعلى من نخيل التنومة، فضلاً عن مسرحيات باهرة، ولعل إبداعه في اوبريتات بيادر خير ، والمطرقة والمعيبر شنان، ,واغنيات (مگبعة ورحت أمشي)، وياشبيبة توحدي، ويابو بلم عشاري والله شحلات العمر ياسمرة، وما چنك هذاك أنت، وووووو الى آخره- إن كان هناك آخر لعطاء هذا النهر المعطاء- شاهد على تلك الموهبة الناصعة والفريدة.
وللحق، فقد أبدع ملحنو اعماله – حميد البصري وطالب غالي وطارق الشبلي- إبداعاً فذاً..
لم ألتق الراحل العضب سوى مرتين، مرتين فقط، ولكني أحسب إني وإياه التقينا آلاف المرات، ربما لقربه من نفسي، ولعراقية ملامحه، وقسمات وجهه الجنوبية المألوفة، حتى تشعر أنك ترى وجهه في ملايين الوجوه العراقية. وبين لقائي الأول والثاني مساحة زمنية طولها أربعون عاماً.. حيث أذكر أن اللقاء الاول به كان العام 1974، في المهرحان الشعري الذي أقيم في البصرة، بمناسبة مرور سنة على إنبثاق الجبهة الوطنية، وقد شاركت في ذلك المهرجان بقصيدة عنوانها ( معايدة جبهوية من شيوعي الى بعثي)- چنت مصدگ بالجبهة- أما العضب فشارك بقصيدة هي عبارة عن مجموعة من اللوحات.. وقد ضم المهرجان باقة من أروع شعراء البصرة التقدميين، من بينهم الشهيدان فالح الطائي وفوزي السعد ( أبو سريع) ومهدي عبود السوداني وكامل الركابي، وكريم القزويني، وغيرهم من شعراء البصرة، وأذكر إننا سهرنا بعد المهرجان، وقضينا ليلة شعرية وفنية ساحرة كان (أبو تضامن) قمرها ونجمها الساطع…
واللقاء الثاني كان عام 2014 أي بعد أربعين عاماً بالتمام، عندما ذهبت مع صديقين الى البصرة، لقضاء أمر خاص، وهناك شرفني بعض الأصدقاء والصديقات بإقامة أمسية شعرية لي في قاعة فندق شيراتون البصرة، ولكن، رغم عدم استعدادي لهذه الأمسية، ورغم العجالة، وعدم توفر الوقت للإعلان والإعلام، فقد نجحت الأمسية، حيث حضر جمهور غفير وعدد من شعراء البصرة الكبار، كان في مقدمتهم (أبو تضامن) الذي دخل القاعة ومعه ولده على ما أعتقد، حيث احتضنني، وقال لي معاتباً :(سويتها غفل أبو حسون.. ليش هيچي خويه)؟!
أما الفقرة الأهم في حكايتي مع الغالي أبي تضامن، فقد كانت في العام 2009, حين قررت أن أدوٌن نضالات الحزب الشيوعي العراقي في ( أوبريت غنائي)، يقدم في الاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لميلاد الحزب، وفعلاً كتبت الأوبريت، وأسميته ( إنت باچر .. إنت أمس )، وقد ضم 8 أغنيات، مع عدد من اللوحات والحوارات.
والمشكلة التي وقفت عندها، هي كيف ومن سينفذ هذا الأوبريت، ومن سيلحنه ويخرجه ويصرف عليه، لاسيما في تلك الظروف الأمنية الصعبة والقاسية، خاصة وأنا أقيم في أمريكا، وبيني وبين العراق ألف بحر وجبل ؟!
لذا إتصلت بصديقي المناضل جاسم الحلفي، الذي كان وقتها عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وأخبرته بقصة الأوبريت، وكيفية تنفيذه.. وبشكل سريع، استجاب لي الرجل، وطلب مني ارسال النص، فارسلته عن طريق صديقي خيون التميمي.. وبعد يومين اتصل بي الحلفي، قائلاً بفرح: (عاشت إيدك) .. الأوبريت رائع وجميل، وقد إستقر الأمر على أن يلحنه الفنان الكبير طارق الشبلي، وتنفذه فرقة البصرة كما سيقوم الحزب بتحمل تكاليفه.. وفي اليوم الثاني تم التواصل بيني وبين الشبلي وانتهت المشكلة التي كنت قلقاً بشأنها، لكن مشكلة أخرى ظهرت فجأة، كادت تلغي الاوبريت برمته.. والمشكلة، أن الملحن طارق الشبلي أشرك الشاعر علي العضب في تاليف الأوبريت! وحين سمعت ذلك رفضت بشدة، واتصلت بالشبلي، وقلت له: إني كتبت عملاً متكاملاً ولا أظن أنه بحاجة الى أي اضافة!
فقال لي الشبلي بمودة: أبو حسون هذا علي العضب، وانتما شاعران كبيران، وسيحمل العمل إسميكما اللامعين!
فقلت له : (على راسي أبو تضامن)، ولكني أردت أن يكون العمل بإسمي فقط، فهو حقي الشخصي لأخلد إسمي وتاريخي عبر هذا العمل، الذي اعتبره عملاً وطنياً شيوعياً كبيراً وفاخراً
وهنا أخذ الشاعر العضب التلفون من الشبلي، وقال لي: استاذ فالح، أرجو ان تتقبل اضافاتي ولوحاتي، بروح شيوعية ورياضية، فهي إضافة مهمة للعمل، ومتنازلاً عن ذكر اسمي في تايتل الاوبريت!
ثم اكمل قائلاً: ارجو أن توافق، وثق ستشكرني على ذلك بعد أن تراه!
وللحق، فقد خجلت من موقف العضب، وشعرت بالحرج امام أخلاق هذا الرجل الفذ.. فوافقت على اضافات العضب، بشرط أن يكون إسمهه مع إسمي سوية..
بعد أشهر قليلة عرض الأوبريت على خشبة المسرح الوطني، ونجح نجاحاً كبيراً بحيث ظل الجمهور الذي لم تستوعب عدده قاعة المسرح، واقفاً يصفق لأكثر من خمس عشرة دقيقة، رافضاً الخروج ومغادرة القاعة.. وفي هذه الأثناء رن هاتفي، وإذا بالرفيق جاسم الحلفي يصيح بي وقد إختلط الدمع بصوته قائلاً: إسمع.. إسمع تصفيق وهتاف الجمهور، ماذا فعل أوبريتك، وماذا حقق من نجاح ونال من اعجاب!
لكن صوت الحلفي ضاع في لجة هتافات الجمهور، وهو يردد لازمة الأوبريت :
“هي ياشمس باكمر يورود ورياحين.. حيوا الوليد الأجه باربعة وتلاثين..”
في اليوم الثاني اتصلت بعلي العضب، وقلت له:
شكراً جزيلاً أبا تضامن !
فضحك العضب وقال: ألم أقل لك ستشكرني، لكن، وللأمانة فقد كتبت لنا عملاً عظيماً سيخلد كل من ساهم وعمل فيه.