بقلم: د.مظهر محمد صالح ..
الصراع على الجبنة مع الحيوان لاتعني للبشر سوى فقدان الامل وتراجع الحرية وحصاد الخيبات.هكذا اشرت لي التفاصيل المكانية لواحدة من سفن قرون العهد الاستعماري الهولندي التي وجدتها راسية حتى الساعة في حافات ميناء امستردام وتحولت الى متحف يؤمه تلاميذ المدارس في هولندا وبعض السائحين. ادهشتني تفاصيل تلك السفينة الحربية التي تغطرست بمدافع العصر الاستعماري التي انتشرت من حولها أكياس البارود منتظرة انطلاق معاركها البحرية. وظل تجوالي داخل تلك السفينة التي تعود الى القرن السادس عشر عصر استخدام البارود في المعارك الحربية البحرية ونماذج قراصنتها وتصرفاتهم في نهب ثروات الامم في بلوغ المستعمرات والعودة بالتوابل والخامات النادرة والذهب والفضة ،لتذكرني حقاً بمقومات العصر الراسمالي التجاري او الماركنتالي وسلوكيات التراكم البدائي لراس المال منذ يوم نهبت بريطانيا ثروة الهند لتنافسها اسبانيا وفرنسا و هولندا على مستعمرات العالم .وعلى الرغم من ذلك اتضح لي من حديث الدليل السياحي ان تلك السفينة الراسية لم تبلغ شواطي اسيا كما كان مقررا لها بل تراجعت وسط المحيط الاطلسي الجنوبي لفقدان ملاحيها و قراصنتها الامل في استكمال ابحارها نحو اقاصي الشرق. وقد اخذني الفضول وانا اتطلع الى اقبية السفينة التي امتلأت باقراص الجبن كخزين غذائي لادامة حياة من هو على ظهر تلك البارجة الخشبية ذات الملامح الاستعمارية،ولم يفارقنِ مجسم ذلك الكلب الرفيع الشكل من النوع السلوقي وهو يعوي اصطناعيا بين الحين والاخر وبشكل مخيف يتسم بالشراسة والعنفوان والكبرياء عند تقرب اي فرد من قبو الجبن نفسه داخل السفينة … انه كلب الحراسة الذي قلب المعادلة لنفسه بالتمتع باقراص الجبن دون غيره من البحارة ممن هم على ظهر السفينة عند اي محاولة لسرقة بعض تلك الاقراص خارج الحصص اليومية المحددة وعلى وفق نظام الابحار .وحينها ادركت ان جورج اورويل قد ولدت روايته مزرعة الحيوان هذه المرةًعلى ظهر السفينة الهولندية لتروي لنا قصة حيوان بات هو السيد ويعيش على ظهر السفينة وليس في مزرعة السيد جونز كما جاء في رواية اورويل مزرعة الحيوان ١٩٤٥ (الذي يوصف بأنّه عديم الرحمة، وشديد القسوة، وتظهر قسوته من خلال استغلاله للحيوانات التي تعيش في المزرعة وإجبارها على العمل بجد ثمّ يسرق منتجات عملها، كما أنّه لا يقدر حياة تلك الحيوانات، ومن هنا فإنّ هذه الحيوانات تبدأ بالاحتجاج، ويخرج الخنزير بالقول إنّ عليهم أن يتخلصوا من تحكم البشر بهم، فتستعد حيوانات المزرعة للثورة ضد السيد جونز، وتأخذ الخنازير بزمام الامور باعتبار أنّ الخنازير هي أذكى الحيوانات في المزرعة، ويبدأ التمرد مبكراً حين ينسى السيد جونز أن يطعم الحيوانات).ولكن المتمرد هذه المرة على ظهر السفينة الحربية هو ليس الكلب الذي يخيف البشر ،انهم قراصنة السفينة انفسهم ،يوم تقاتلوا فيما بينهم على قبو المؤونة وتمردوا طمعاً بالجبنة وانقلبوا على الكلب جميعهم ورموه في البحر.وخسروا المهمة وفقدوا الحرية ليدخلوا في ظلمات الضياع بعد ان اضلهم الطمع في قبو الاجبان من داخل السفينة نفسها.
وتروى حكاية السفينة بان اختراق انظمة الحماية الحيوانية والاستيلاء على الجبنة من جانب البحارة والذي قاد الى عصيان داخل السفينة لينقض الجميع عهدهم الاستعماري بالعودة بالسفينة فارغة الى هولندا خالية من التوابل لتبحر ذليلة راسية في خليج امستردام منكسرة منذ نهايات القرن السادس عشر وبمعركة كانت مادة هزيمتها اقراص الجبن وضحيتها الكلب الشجاع الى يومنا هذا. انها مزرعة الانسان الخائن على ظهر سفينة الحيوان المؤتمن …!!.
ولكن يبقى سؤال (الجبنة) الذي تداوله تلاميذ مدارس مدينة نيويورك والعالم وهم يقلبون رواية مؤثرة خصصت لهم كان عنوانها :من حرك قطعة جبنتي (Who Moved My Cheese?)التي كتبها الطبيب والروائي الراحل سبنسر جونسن في العام ١٩٩٨ وهي تتصدى لمزرعة الحيوان ثانية والصراع على قطعة الجبن في عالم مابعد جون اورويل.
فبين تلاميذ مدارس امستردام وتلاميذ مدارس نيويورك والعالم والعراق.شوقني الكاتب اللامع والاكاديمي العراقي المغترب ظافر آل عيسى ان اتصدى للصراع التاريخي داخل مزرعة الحيوان نفسها وبقوى جديدة وفي معركة يبدوا انها لم تحسم منذ رواية جورج اورويل ١٩٤٥ وحتى سبنسر جونسن ١٩٩٨ مادتها (الجبنة ) والقدرة على تحريكها واهمية التغير في حياة البشر.
تبين رواية سبنسر جونسن بأن هناك قزمان أحدهم اسمه (هاو ) والأخر (هيم ) موجودان في متاهة ومعهما فأران. كان هدفهم في الحياة هو البحث عن قطعة جبن ينعمون إلى جانبها بالراحة والاستقرار. فكل منهم اتبع طريقة في البحث عن هذه القطعة التي يحلمون بها.الفأران اتبعوا طريقة التجربة والخطأ فاصطدموا بأماكن مظلمة و مسدودة. وفي كل مرة لا يجدون فيها ضالتهم يرجعون ويبحثون مره أخرى.
أما القزمان فاتبعوا طريقة التفكير فاصطدموا بمعتقداتهم وأفكارهم للوصول لهدفهم وكانوا في كل يوم يلبسون حذاءً رياضيا ويأخذون طريقهم في المتاهة للعثور على قطعة الجبن.
استمر جميعهم على ذلك إلى أن عثروا على قطعة الجبن. ففرحوا بها كثيرا. بداوا يحلمون ويخططون؛ منهم من أراد أن يكون له عائلة ومنهم من أراد إن يستمتع بقطعة الجبن وبطعمها. حتى أن القزمان بنيا منزلين بالقرب من قطعة الجبن والصقا صورها على الجدران. وكتبا على الجدار: الجبن يجعلنا سعداء.
في بداية الأمر كان الجميع يسارعون مبكرين إلى موقع الجبن سالكين نفس الطريق المعروف وأصبح لهم روتينهم الخاص. ولكن بعد فترة قصيرة اتبع القزمان روتيناً مختلفاً فصارا يستيقظان من نومهم متأخرين ثم يسيران بكسل مستغنين عن حذاء الرياضة إلى محطة الجبن فيسترخيان ويتصرفان كما لو أنهما في منزليهما. وشعرا بالاطمئنان لدرجة انهم لم يلحظا ما كان يجري .
أما الفأران فقد واصلا روتينيهما اليومي فكانا يصلان مبكرين لموقع الجبن، ويتفقدان المكان للتأكد من عدم وجود أي تغيير, ثم يجلسان لتناول الجبن.وفي أحد الأيام قدموا لنفس المكان فلم يجدوها.
الفأران وصلا مبكرين ولم يستغربا لأنهما لاحظا من قبل تناقصها منذ فترة ولم يبالغا في تحليل الموقف. لقد تغير الوضع في المكان فلابد أن يتغيرا ، فقررا أن يلبسا الأحذية ويبحثا مرة أخرى في المتاهة عن قطع الجبن في مكان آخر.
أما القزمان (هاو وهيم) فظلا يولولان ويصرخان: من حرك قطعة جبنتي؟ وأخذا ينعيان نفسيهما ويتساءلان من أخذها بدون وجه حق!!. لم يصدقا الواقع ، و هذا من طبيعة البشر …
كان سلوك القزمين مفهوماً, فلم يكن العثور على جبن جديد بالأمر اليسير وكان هو مصدر سعادتهما الوحيد. وبعد طول تفكير قررا تفحص المكان من جديد والعودة في اليوم التالي للتحقق ما إذا تم ارجاع الجبن إلى مكانه أو لا؟
وفي اليوم التالي لم يجداها فرجعا في اليوم الثالث فلم يجدوها فاقترح (هيم ) أن يجلبا ادوات حفر ليبحثا عنها. وفي اليوم الرابع أتيا بأدوات الحفر وحفرا حتى خرقا الجدار إلا أنهما لم يجدا الجبن. فعلا صراخ (هيم ) وضل يكرر من الذي اخذ قطعة الجبن الخاصه بي.
وعندما شعرا بيأس و إحباط ، حاول (هاو ) ان يقنع (هيم )بأن يعودا لطريق المتاهه والبحث من جديد مع شعوره بالخوف لهذه الخطوه لأنه قد نسى طريق المتاهه ومسالكها . الا ان (هيم ) لم يوافق على ذلك مبررا خوفه انه يرتاح للمكان وانه وجد السعادة فيه وانه ايضا قد كبر ولا يستطيع ان يسلك طريق المتاهه مرة اخرى
فتح (هاو )عينيه متسائلا: أين الفأرين؟ هل تعتقد أنهما يعلمان شيئاً لا نعرفه؟ فأجاب (هيم ) في تهكم: انهما مجرد فأرين, نحن أذكى من الفئران .قال (هاو):أنا اعلم أننا أذكى ولكننا لا نتصرف بذكاء في هذه اللحظة بالذات ، فلعل الفئران الآن قد وجدا قطعة جبن اخرى وهم الأن ينعمون بها فرد (هيم )مبررا او لعلهم قد هلكوا في الطريق فقال (هيم ): فالأمور تتغير هنا وربما يكون من الأفضل أن نتغير نحن أيضا.
تساءل (هيم): ولم ينبغي أن نتغير؟ إننا بشر ومتميزون ولا ينبغي أن نتعرض لمثل هذه المواقف. نحن أصحاب حق ولا بد من تعويضنا أو على الأقل إخطارنا بالتغيير قبل حدوثه وليس من العدل أن ينفد الجبن فجأة. فأجابه (هاو):علينا أن نكف عن تحليل الموقف ونشرع في البحث عن جبن جديد ، إلا إن (هيم ) رفض ذلك.
فكر (هاو ) وعقد العزم على التغيير لأنه لو بقى في مكانه فانه حتما سيفنى. وعندما شاهد (هيم ) صديقه يرتدي حذائه بادره قائلاً: لا اصدق انك ستذهب للمتاهة مرة أخرى لا بد أن تنتظر معي هنا حتى يعيدوا لنا الجبن إلى مكانة.
أجاب (هاو):ليس هناك من يعيد لنا جبننا ، فنحن مسئولين عن أنفسنا لقد حان وقت البحث عن جبن جديد ، في بعض الأحيان تتغير الأمور ، وهذه هي سنة الحياة ، فالحياة تمضي ويجب أن نمضي معها.
انطلق (هاو ) نحو المتاهة وشعر بالخوف الشديد وظل يبحث بين دهاليزها فتارة يرى طريق مظلم وتارة طريق مسدود فتأخر في مشواره وبدأ يتسلل له اليأس حتى انه فكر في الرجوع لصاحبه لعل قطعة الجبن قد رجعت الا انه قد تراجع عن ذلك لأنه ادرك ان ذلك مغامره غير مضمونه وان شعوره ناتج من الخوف ، فقال في نفسه: أن اصل متأخراً خير من أن لا اصل على الإطلاق.
و تذكر أن قطعة الجبن كانت تتناقص يوما بعد يوم وليس ذلك فقط بل إن العفن بدأ يكسوها فاستغرب كيف فاته ذلك ولم يلحظه. وكان في جيبه بعض من قطع الجبن القديمة فأخرجها ولاحظ كم قد كساها العفن ، فقرر التخلص منها حتى يستطيع أن يجد قطعة جبن جديدة.
بدأ (هاو ) يتخيل نفسه وقد عثر على قطعة جبن طازجة وأنه يتذوق طعمها ، عندها انكسر حاجز الخوف الذي شعر به في البداية خاصة بعد أن عثر على بعض قطع الجبن القليلة من هنا وهناك ، فكتب على الجدار: التحرك في اتجاه جديد يساعدك في العثور على جبن جديد.
وبدأ يشعر بالسعادة في رحلة المغامرة والبحث عن قطع الجبن رغم أنه لا يملك أيا من الجبن ، فأصبح هدفه ليست الجبن فحسب!! بل الاستمتاع بالمغامرة والبحث أيضا ، وأنكر على نفسه شعوره بالخوف في بداية الطريق ، توقف مرة أخرى وكتب على الجدار: عندما تتجاوز الخوف الكامن بداخلك تشعر بأنك حر.
في ذلك الوقت تذكر صديقه (هيم):هل مازال في موقعه أم تحرك ؟! فقرر أن يكتب بعض اللافتات ويعلقها لعل صديقه يجدها فكتب على لافته (( لكي لا تفنى ابحث عن قطعة جبن جديدة)). وعلى لافتة أخرى كتب: (( لكي تحصل على قطعة جبن جديدة لا بد أن تتخلص من جبنك القديم )) وأيضا: (( ولكي تحصل على جبن جديد يجب ان تكسر حاجز الخوف بداخلك )).
أدرك (هاو ) مرة أخرى إن ما تخشاه لا يكون بالضرورة سيئاً بالدرجة التي يصورها لك خيالك ، وأن الخوف الذي تدعه يتضخم في عقلك أسوأ بكثير من الموقف الذي تعيشه فعلاً.
ومضى في طريقه مستمتعا بالبحث إلى أن وصل إلى موقع وجد فيه قطعة جبن لا بأس بها ففرح وقنع بها في بداية الأمر إلا انه تذكر تجربته القديمة: إن الجبن لن يبقى كما هو وإنما سيتناقص أو يصيبه العفن فقرر أن يأكل من الجبن ثم يعود إلى المتاهة باحثا عن قطعة أخرى ثم يرجع.
ظل على هذا الحال حتى عثر في أحد الأيام على جبل كبير من الجبن ففرح به فرحا كبيرا واخذ يأكل ويأكل. ولا غرابة فقد وجد الفأران في نفس المكان يأكلان وقد بدت عليهما البدانة، يبدوا أنهم قد وصلوا منذ زمن. رحب الفأران به واستحسنوا قدومه وإقباله على التغيير.و اكتشف إن التغيير نعمة من نعم الله تعالى لأنه قاده إلى العثور على الجبن أولا وعلى جانب من قواه الخفية الكامنة داخله ثانياً ، ثم تأكد أن اكتشاف الإنسان لذاته أهم من اكتشاف الجبن.
واخيرا،تذكر صديقه وكيف أنه فشل في إقناعه وأدرك انه لكي يتغير (هيم ) فلابد له أن يغير نفسه وطريقة تفكيره ثم كتب على الجدار: عليك أن تطلب من الآخرين أن يتغيروا لكن لا تحاول إجبارهم على ذلك فمن لا يتغير من الداخل لا يتغير أبدا.
فلكي لا تفني أبحث عن قطعة جبن جديدة ولكي تعثر على قطعة جبن جديدة لا بد أن تتخلص من جبنك القديم. ثم اكسر حاجز الخوف واستمتع بالبحث والمغامرة لأنك حتما ستلقى ما هو أفضل مما أنت عليه. وتوقع التغيير ، لأن الجبن يتحرك باستمرار. واخيراً تغير أنت .. قبل أن تحاول تغيير الآخرين.
تناهى إلى مسامع (هاو ) ما خيل إليه انه صوت قادم من أطراف المتاهة.. ثم علا الصوت أكثر وكأن شخصاً ما على وشك دخول المخزن. تساءل (هاو):هل هو على وشك أن يرى وجه صديقه القديم (هيم.. ) يدخل إلى المخزن شاحباً ومنهكاً من الجوع وتعب المسير !!
تمتم (هاو ) بدعاء قصير ، وكان يملأه الأمل في أن يكون صديقه قد تمكن في النهاية من إدراك أهمية التغيير وانه قد قرر: التحرك مع الجبن والاستمتاع بالحياة.
ختاما، ان من ينتصر في مزرعة الحيوان ويحصل على جبنة دائمة ومتجددة هو من يتغير من الداخل.