بقلم: فالح حسون الدراجي ..
قالوا لنا: إن الحياة مدرسة، وسنواتها أشبه بصفوف الدراسة، والحليم الذي يتعلم من هذه الصفوف، ويستفيد من دروسها، وقد تأكد لي صدق هذا القول من خلال النتائج الانسانية الباهرة التي تحققت وتتحقق في مختلف الاماكن والازمان..
فالقنديل المضيء لا ينير مكانه فحسب، إنما يضيء المساحة كلها، وزهرة القرنفل تحيل الحديقة برائحتها الى جنة صغيرة، وكذلك العمل الانساني الطيب، فهو يتحول الى مثال معطر في اروقة التاريخ، كما إن الفعل الانساني الجميل لايبقى حبيساً في إطار فاعله، إنما ينتشر في فضاء الانسانية، ويصبح جماله مشاعاً وملكاً للبشرية برمتها.
أمامي الان عدد من الاضاءات الملونة التي تشبه شموع الميلاد، لكل شمعة فيها قصة، وموقف، وعبرة..
ومن هذه الاضاءات، واحدة أنارت طريق الشعر قبل خمسين عاماً تقريباً، والثانية سطعت في كأس العالم قطر 2022، وتوهجت قبل أيام في ملاعبها، فهاتان الإضاءتان، غيض من فيض المواقف والامثلة الانسانية الباهرة التي اضاءت ليل التاريخ..
فمثلاً الاعتراف بافضلية المنافس حين يفوز عليك، دون أن تبرر ذلك بتحيز التحكيم، أو تدعي أن (الگاع عوجه)، أمر رائع، لكن الأروع، حين تعترف بافضلية المنافس رغم فوزك عليه، وتشير علناً الى أحقيته، خاصة حين تعتذر عن استلام جائزة الفوز، بسبب قناعتك من أن خصمك كان الأحق منك بهذه الجائزة.. وهذا لعمري ذروة الشرف التنافسي، ومنتهى الروح الرياضية، وأسمى الأهداف والقيم، فالفوز ليس هو الغاية، إنما هو وسيلة لتحقيق غاية مجيدة ونبيلة.
واذا كان الفوز جميلاً، فإن الأجمل منه، ذلك الوهج الذي يكمن في روح الفوز، والأثر الذي سيتركه المنافس في قلب منافسه، وقلوب كل المتابعين للسباق.
ولأن الأمثلة الكبيرة والصعبة، تكون استثنائية دائماً، فقد بات الاشخاص الذين يضربون هذه الامثلة قليلين بالضرورة.. لذلك يرى البعض من المتشائمين، أن الحديث عن وجود متنافس، يرفض استلام جائزة الفوز، ويطالب بمنحها لمنافسه، هو ضرب من الخيال، ومحض وهم لا يجد مكاناً إلا في عقول الحالمين بعالم لم يولد بعد، عالم تسمو فيه قيم الانسانية المثالية، وتتحقق فيه المبادئ الأخلاقية العالية، المعطرة بأريج التنافس الشريف.. وحتى ينبثق مثل هذا العالم الافتراضي، علينا أن نقبل ونقتنع بما هو سائد !!
ولم يكتف هذا (البعض) بهذا الاعتقاد السوداوي المتشائم، بل ذهب الى حسم الموضوع بالاتجاه الذي يراه، فهو يتصور ان المتنافس (الجنتلمان)، ذا القياسات النموذجية المعلنة لم يولد بعد، بل ولن يولد أبداً مادامت هناك سباقات وميادين، ومتنافسون وجوائز مغرية ، لكن هذا البعض (الواقعي)، لم يحسب حساباً للإنسان، كعطاء. وموهبة، وتفرد، وجنون، وخيال، وتميز، قد يصل حد الاعجاز احياناً، بدءاً من اعجاز الانسان في صعوده الى القمر، مروراً بجنونه في صناعة الكومبيوتر، وليس انتهاءً باعجازه في فن القصيدة ..
وسأرد على هذا (البعض) بمثالين حيّين من عالمنا الذي نعيشه، وهما مثالان مختلفان في الزمان والمكان والنوع والميدان، لكنهما متطابقان في الجوهر والمعنى والقيمة.
المثال الأول بطله الشاعر العراقي الكبير حسن المرواني، مبدع رائعة (أنا وليلى)، والحدث عمره واحد وخمسون عاماً، يوم ألقى المرواني قصيدة (أنا وليلى) في قاعة الحصري- كلية التربية ( الملغاة) سنة 1971، ومطلعها: “ماتت بمحراب عينيك ابتهالاتي .. واستسلمت لرياح اليأس راياتي.. جفت على بابك الموصود أزمنتي.. وما أثمرت شيئاً عباداتي”
وقد شاركه في صياغة هذا المثال الجميل، الشاعر الكبير عبد الاله الياسري، الذي قرأ في المهرجان ذاته قصيدة “قافلة الأحزان” ومطلعها: حملت شراع الموت في صمت آلامي.. وارضعت من ثدي التباريح أَعوامـي
حملتُ دمـوعَ الأَرضِ في جفنِ لوعتي وخضَّبتُ في جـرحِ الملايينِ أَنغامـي
تعالَ وخذْ ياجـوعُ قمحَـكَ من دمي ودَعْني أَمتْ وحدي على رمـحِ آلامي”.
ومن المعلوم ان كلية الآداب كانت تقيم مهرجانا شـعريا كل سنة، يشارك فيه شعراؤها، وهم طلبة، لكنهم سيتركون أثراً كبيراً في مسار الشعر العراقي.. لقد فاتني أن أذكر أن مهرجـان عام 1971م كان متميزاً و (خطيراً) ولعل خطورته تكمن في حضور قيادات السلطة البعثية، وفي المقال التهجمي المنشور في جريدة الثورة، والذي استفز عمادة كلية الآداب، لأنها أرادت من خلاله الرد بشكل شعري على ذلك المقال ..
وفي الوقت المحدد، حضر الشعراء، وحضرت لجنة التحكيم، وجاء جمهور لم يأت بحجم حضوره من قبل، يتقدمهم نائب رئيس
الجمهورية آنذاك صالح مهدي عمـاش، إضافة الى عدد كبير من الشخصيات السياسية والادبية والاكاديمية..فقرأ المرواني قصيدته، وكذلك الشاعر الياسري، ثم بقية الشعراء. وفي نهاية المهرجان منحت الجائزة الأولى لقصيدة (انا وليلى)..
واعطيت الجائزة الثانية للشاعر الياسري عن قصيدته (قافلة الأحزان). كما شارك شعراء بارزون في المهرجان أيضاً، لكن لجنة التحكيم والجمهور تفاعلا مع قصيدَتي المرواني والياسري بشكل كبير ومؤثر..
واذا كانت قصيدة ( ليلى) قد أيقظت لدى الشباب الحاضر لقاعة الحصري، الكثير من مشاعر الحب الغافية على وسادة الأسى والخيبات والانكسار العاطفي، واشتركت معهم في قصص عشقهم المهزوم، فإن قصيدة
قافلة الاحزان، قد اججت في القاعة صوت الرفض لسلطة البعث، وأوقدت شعلة التحدي، وجمرة الغضب بوجه السلطة.. لذلك كانت قصيدة الياسري المعروف بانتمائه للخط اليساري، أعلى كعباً، وأهم، وأخطر موضوعاً، لكن الخوف من السلطة دفع لجنة التحكيم الى منح الجائزة الاولى لقصيدة المرواني، وللحق فإن قصيدة (ليلى) كانت عبارة عن تحفة فنية غزلية باهرة، لكن (قافلة احزان) الياسري كانت”شكل ثاني” شكلا مرعبا، مما اضطر عميد الكلية- لا أتذكر اسمه الان- الى أن يصعد الى المنصة حال انتهاء الياسري من قصيدته، قائلاً : “هذا الشاعر واهم.. ومغرر به.. نحن نعيش في ظل الثورة بخير وعافية” !هنا، وفي ظل هذا الوضع الصعب والمتأزم، يرفض حسن المرواني بكل شجاعة قبول الجائزة الاولى ، مرشحاً لها الشاعر عبد الإله الياسري، لكن الياسري لم يقبل بهذا الأمر، فشكر المرواني، وقام بدفعه نحو منصة التكريم، وسط تصفيق الجمهور واعجابه بموقف هذين الشاعرين النبيلين.
أما المثال الثاني، فقد تشكل في ميدان الكرة قبل أيام، حين أبدى النجم البلجيكي (دي بروين) دهشته من فوزه بجائزة أفضل لاعب في مباراة منتخب بلاده ضد كندا، قائلاً في تصريحات إعلامية نقلتها صحيفة “ذا صن” الإنجليزية:
“في الحقيقة لا أفهم سر حصولي على جائزة أفضل لاعب في المباراة، ولا أرى أني قدمت مباراة جيدة تستحق هذه الجائزة،”.
ثم أكمل اللاعب البلجيكي كلامه: “جائزة افضل لاعب يستحقها أي لاعب كندي، ولا استحقها انا، أو غيري من لاعبي المنتخب البلجيكي”!
شكراً حسن المرواني .. وعبد الاله الياسري، وشكراً مضاعفاً للاعب دي بروين.. لقد أعطيتمونا درساً جمالياً ومجانياً في لغة الحب والوعي والقيم والمثل الإنسانية.