بقلم: فالح حسون الدراجي ..
إذا كان الناس يدفعون فواتيرهم من جيوبهم أو من حساباتهم المالية، فإن الشعراء يدفعونها من نبض قلوبهم وأعصابهم وعافيتهم.. وطبعاً، فإن الجميع يدفع فواتيره بالعملة النقدية، إلا الشعراء فهم يدفعونها بالعملة ( الدماغية)، او ( القلبية)، وأكثر الأحيان يدفعونها (بالذبحة الصدرية)!
نعم، فالشعراء يدفعون فواتير قصائدهم بـ(فيزا كارد) الأرق والقلق والاضطراب النفسي، والشيزوفينا، والتيه، والاحساس الدائم بالالم والفقد، والشعور بالانفصال أو الانعزال حتى عن الذات….الخ!
وإذا ما تأكدت هذه القراءة لمعاناة الشاعر، وسايكولوجية القصيدة، فسيكون الفهم سهلاً عليك، وقد لا تحتاج لأي شرح عن الأسباب التي ميزت عذابات الشاعر بشكل خاص، والمنتج المبدع بشكل عام عن غيره.. فالشاعر المضطرب ليلاً بهواجسه وقلقه، والموجوع نهاراً بكآبته، وخوفه وتوجسه من كل شيء، يصبح المألوف لديه غريباً، والعكس صحيح ايضاً..لذا حين أضع رأسي على وسادة الليل، ويضع الآخرون رؤوسهم مثلي .. يزورهم ملاك النوم حالاً، بينما تمتنع عيناي عن الاستجابة، وتغلقان أبوابهما ونوافذهما وستائرهما بوجه ملاك النعاس.. وأظل أتقلب في فراشي قلقاً، موجوعاً مثل (السمچة المزوهرة)، أفكر بكل شيء،وبغير أي شيء.
ولما تنقضي الساعات من العذاب والعناد، تبدأ مقاومة عينيّ بالتلاشي شيئاً فشيئاً، ثم تستسلمان للنوم بصعوبة وإباء وعزة نفس مثل قائد (بطل) أجبر على التسليم.
وإذ كان ليلي قد انقضى هكذا، فماذا أتوقع أن يكون صباحي، وكيف سيكون مزاجي إذن ؟!
قطعاً لن يكون نهوضي صباحاً أفضل من رقودي ليلاً، ولن يكون يومي وردياً زهرياً، بعد كل كوابيس القلق، واضطراب المهجة وأرق ليلة البارحة.
وهنا سيأخذ الجمال دوره، إذ عليه أن ينشط ويتعافى ويتحرك من اجل أن يزيح هذا الكم الهائل من الخراب والقبح والأسى الذي احتل مزاجي، وافترش بسواده مساحات البهجة الخضراء في قلبي بهذا الصباح الجديد، وعليه أن يرمم ما فعله بي زلزال البارحة من دمار، وهل هناك ما يعيد للروح بهاءها، وللقلب انشراحه، وللمزاج صفاءه، غير سماع تلاوة القرآن الكريم بصوت القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد – تحديداً؟
لذا ذهبت الى قناة الشيخ عبد الباسط الخاصة، ورفعت من درجة صوت الشيخ – أحب سماع تلاوة القرآن بصوت عال- وشيئاً فشيئاً بدأت ألوذ بصوت عبد الباسط واطمئن بقربه، فأشعر بتناغم عجيب معه، حتى بت أشعر وكأني واحد من العشاق الصوفيين المتيمين، ورحت أحسد الحلاج على إيمانه وروعة صوفيته وسموها..
بعد أن استمعت الى آيات من القرآن الكريم، بدأت جروح الروح بالالتئام والشفاء، حتى وجدت نفسي محلقاً بأجنحة الامل في سماوات الخشوع والتصوف.. فأستعيد توازني بعد عشر دقائق من سحر القرآن بصوت الشيخ عبد الباسط، لكني لم أكتف من التخيل، ولا من الحاجة الى المزيد من تناول مسببات الطمأنينة.. فهرعت الى ينبوع الصفاء ونهر العذوبة الفريدة- الى حنجرة فيروزة الصباح – وهو تقليد عندي وعند الملايين سماعها كل صباح- ومع فيروز حيث اسافر الى الشمس والنجوم، وأحط مع أشعتها الفيروزية على أرض القارات السبع، ثم نمضي معاً الى القارات التي لم تكتشف بعد – أقصد القارات السحرية التي اكتشفها صوت فيروز وحده- وأذهب مع فجرها الندي ثملاً الى عالم مترع بالرومانسية الحالمة والذكريات، والسحر الذي يخترق المشاعر حد الصميم، وتجعلني أعيش برفقتها كل التفاصيل الممتعة وغير الممتعة في حكايات عشقي الطويلة والكثيرة.. أمضي معها الى (القهوة البحرية)، والبحر (الكبير، والسماء البعيدة)، وابحث معها عن (شادي) الطفولة، واكتب معها (اسمه) على شجر الحور العتيق.. أو قد تكتبه هي على (المشاوير وهم العمر، ودمع الزهر، ومواسم العصافير)، وأعود معها الى سطح الجيران، ونصيح باعلى صوتينا: ” طيري يا طيّارة طيري ياورق وخيطان، بدي أرجع بنت ازغيري على سطح الجيران.. وينساني الزمان على سطح الجيران ..)!
ثم اهبط من سطح الجيران، الى حيث اكون في بيتي، وأنا منغمر من قدمي حتى رأسي في بحر الفرح والدهشة، ومنبهر حد التوهج في عالم الروعة والسعادة .. شكراً لك فيروز .. وشكراً جزيلاً للأقدار التي جاءت بك إلينا ..
لذا، وبعد هذا الترميم المدهش، أزيلت حتماً كل آثار زلزال ليلة أمس الاول، واورقت بدلاً عنها زهور النرجس والياسمين حتى امتلأت مسامات روحي بعطرها واريجها.. وها أنا اشعر بعافية وحبور جديدين، وبولادة يوم جديد فعلاً.. فأكرر شكري لفيروز، ولصوت الشيخ.
ها انا أتناول فطوري، وأعد (أشيائي) لفرح جديد، ومتعة جديدة قادمة بعد ساعات معدودة.. افتح نوافذ قلبي لمرور موكب منتخب الارجنتين الكروي- أقصد موكب الساحر ميسي- نعم هو منتخب ميسي، وإلّا ما قيمة منتخب الارجنتين بدون ميسي، خاصة وأن نصف هذا المنتخب لا يصلح لارتداء فانيلة منتخب كان قد ارتداها أمس مارادونا ويرتديها اليوم أبو ( تياغو )؟!
لن أتحدث عن فنون وجنون وادهاشات ميسى، إذ ما نفع الكلام عن ساحر، وانت ترى وتبصر سحره .. وما يجدي الوصف عن لاعب، إذا كان اللاعب نفسه يصول ويجول امامك، ويقول كلمته بالصوت والصورة، فابصر بأم عينيك فنون ميسي وجنونه ومستحيله، وانظر كيف عبث هذا الفتى بصفوف منتخب كرواتيا القوي، وكيف فكك خطوطه الصلبة وأتعبها، وأرهقها، وأذل مدافعي فريق لم يذل (هل رأيتم ماذا فعل ميسي بالمدافع الكرواتي المسكين ذي قناع الوقاية، وكيف بهذله، وهو يقشر الكرة لزميله جوليان الفاريز ويقدمها على طبق من روعة ليسجل منها الهدف الثالث)؟!
لقد رثيت لحال هذا المدافع البائس، بل و رثيت لكل رفاق مودريتش، فقد ضاعوا أمس الاول في عاصفة صحراء ميسي ..
لذا بات عليّ أن أشكر أبا تياغو، وقبل ذلك أن أشكر الأقدار التي وضعتني في نفس الزمن الذي عاش فيه ميسي وإبداع ميسي.
أخيراً وكي تكتمل بهجة هذا اليوم الجميل، قررت أن احتفل مع نفسي، وأسكر بخمرة الفن، والجمال من غير خمرة، لذلك وضعت شريطاً قديماً لأغنية (محطات)، وأطلقت لآهات ( الكبير) كوكب حمزة عنانها، وفتحت الباب لتدخل الأشجان كلها الى قلبي، فالاحتفال لا تتحدد مساراته باغنيات الفرح، فثمة حزن له إيقاع وأثر بل وبهجة أيضاً، قد تفوق الفرح واغانيه كلها.. وهكذا ( احتفلت ) مع كوكب حمزة في غربة المحطات، أو في محطات الغربة لا فرق.. بعد أن صار العمر محطات) !
وصدقاً لا اعرف لماذا يثير كوكب حمزة في روحي كل هذه الشجون، ويبث فيها كل هذه الاحاسيس المفرحة والمحزنة معاً، لاسيما في سمفونية محطاته الآسرة؟
لقد كان سحر ميسي واريج كوكب حمزة كافيين لأعيش ليلة هانئة باذخة الجمال وباهرة المتعة، وخالية من كوابيس القلق والأرق والتفكير بتحرير اوكرانيا، وتأخر موسم القطن بالسودان، والخوض في كفالة نور زهير، واملاك هيثم الجبوري، مثلما كانت بعيدة عن كل ما يعكر مزاجي الرائق، لا سيما فيكات الـ ( دون) أمام الكاميرات ..