بقلم: فالح حسون الدراجي ..
قبل فترة ظهر على شاشة احدى القنوات الفضائية، أحد القياديين في تنظيم داعش الإرهابي، وهو يتحدث بفخر عن الدروس (العظيمة) التي يتلقاها أفراد التنظيم أثناء وجودهم في الموقف أو السجن، لاسيما في مجال اكتساب الخبرات النظرية والعملية في التفخيخ والتفجير، وقطع الرؤوس، وما الى ذلك من المبادئ (الثقافية) التي يحرص التنظيم على زرعها في عقول أفراده!!
لقد احالني هذا الحديث (الصريح) عن عمليات (التثقيف) والتأهيل للسجناء من أفراد داعش الى ما لديَّ من معلومات عن سجناء (نگرة السلمان)، أو سجن الحلة، أو الكوت، أو الموقف العام، في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكيف كانوا يمارسون حياتهم في السجن، وبماذا كانوا يسقون أزهار مواهبهم، ومعارفهم، وارهاصاتهم الإبداعية، وهم يقبعون في سجن هو عبارة عن قلعة في صحراء مفتوحة على الموت، وعلى بوابات الغياب، والمجهول. وكيف حولوا هذا السجن الصحراوي الى حديقة غنّاء بالقصائد والرسوم، والأغنيات، والثقافات المتعددة.
صحيح أن المقارنة غير عادلة بين سجناء كانوا شموساً تضيء طريق النضال، وتعطر دروب الإنسانية، والثقافة، والمعرفة، والوعي الجمالي، وسجناء آخرين يتبارون في قطع الرؤوس، وإلغاء المدن من الوجود، وشطب الحياة بجرّة سيف، وليس بجرة قلم.. فشتان ما بين من يزرع الحياة بأشجار المحبة، وزهور الجمال، وسنابل الأمل مثل السجناء مظفر النواب، ورشدي العامل والفريد سمعان وأبو سرحان وعلي الشباني وناظم السماوي وخالد الشطري وبلند الحيدري وزهير الدجيلي وجاسم المطير وبيتر يوسف والشاعر الشعبي عبد الكريم تعبان وسامي احمد وإبراهيم الحريري وعزيز الحاج وسلام عادل وجمال الحيدري والصحفي شهاب التميمي، والدكتور سعدي الحديثي، ومحمد سعيد الصكار، وبين من يزرع الموت والخراب، ويبدع في الذبح على (الطريقة الاسلامية) مثل (أبو قتادة، وأبو عبيدة الجحيشي، وأبو هريرة البيلاوي، ومحمد موازي، الشهير بالذباح جون، وحجي بكر، الضابط السابق في تصنيع حسين كامل، والمتخصص بتطوير صناعة الأسلحة التفجيرية، وأبو عمر الشيشاني، وناصر الوحيشي.. وأبو عائشة الكلابي الذي كتب مفتخراً في سيرته (الجهادية): قطعت في يوم واحد خمسين رأساً علوياً في سوريا!!
ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين الحياة في (نگرة السلمان) رغم قسوتها، وبين أي سجن يضم إرهابيي داعش، فسنجد أن الفروقات ما بين السجنين تشبه الفروقات ما بين جامعة السوربون، ومدرسة حجي راضي، أو بين مستوى نادي برشلونة، ونادي الفحيحيل!!
وهنا أستعير مقال الدكتور أحمد الشيخ أحمد ربيعة، ابن أخ الشهيد الزعيم الركن طه الشيخ احمد، الذي استشهد يوم التاسع من شباط عام 1963 في استوديو دار الإذاعة العراقية، بصحبة الشهيد الخالد عبد الكريم قاسم، يضيء فيه على ما جاء بكتاب (نقرة السلمان) للكاتب والصحفي السجين جاسم المطير.. واليكم بعضه:
تكمن قوة السجين السلماني في تجديد ارادته وعزمه وخياره الواعي للنضال، من اجل مصالح الشعب والوطن من خلال تنظيم الحياة السجنية، والبحث عن سبل ازالة التوترات والسعي لرفع مستواه السياسي والتواصل مع الاحداث السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها خارج اطار السجن، وبناء ثقافة متعددة الجوانب تكون مواجهة لسلوك ونهج السلطة واساليبها. هنا يجرى تحدي القسوة بالثقافة.
لقد كانت نقرة السلمان مدينة الثقافة البديلة لثقافة السلطة وعنفها. فالحياة اليومية هنا منظمة على اساس الوعي بأهميتها واهمية المشاركة فيها، سواء في المطبخ، ام في جلب ماء الشرب، وتوزيعه، والاكل، والطبابة التي تزخر بـ 18 طبيبا -سجيناً طبعاً- وهم من خيرة الاسماء المعروفة في مجالات اختصاصها، وفرق الرياضة المتعددة ومسابقاتها، وفي تنظيم الخفارات بالسجن، ومزرعة السجناء، وغيرها من جوانب الحياة السجنية.
في جمهورية السلمان الديمقراطية تنهض الثقافة بكل قامتها، فدورات محو الامية تعطي السجين الأمي ما لم تعطه الدولة المصونة. إضافة الى دورات تعلم اللغات المتعددة، ودورات الاقتصاد السياسي.
وفي السجن جريدة يومية تعتمد الانصات السري، وتحوي الاخبار السياسية، والتقارير الأدبية.. وفيها صفحة ادبية اسبوعية ثم صارت تصدر كل يوم. وبهذه الجريدة ارتبط نظام كامل من الفرق المتعددة. فريق الانصات، فريق التحرير، فريق الاستنساخ الذي كان يعد عشر نسخ من الجريدة، والتي يجب ان توزع صباحا بين السابعة والسابعة والنصف، وفيها الافتتاحية التي تكتب من قبل اشخاص محددين، أما قارئ الجريدة أي (المذيع) فهو داخل القاووش، ويجب أن تتوفر في هذا المذيع شروط عدة. في (السلمان) مكتبة تنمو وتتوسع، ولها شروط التبادل والاستعارة بين السجناء، وهنا بديع عمر نظمي الذي يترجم بقدراته المتقدمة، وكذلك محمد الملا عبدالكريم – مكتبة المعارف المتنقلة- والكردي الضليع باللغة العربية. وفي نقرة السلمان يوجد السجين سعدي الحديثي، الذي يخرج بأغاني الناس من ظلمات السجن الى عالم النور. وهنا عزيز سباهي وهاشم صاحب، وفاضل ثامر، وسلمان العقيدي (المترجم المختص في الادب الانكليزي) ..فضلاً عن وجوه الثقافة والمعرفة الأخرى، التي كان يزخر بها السجين. ختاماً دعوني أسألكم: أهذا سجن.. أم مدرسة..؟!