بقلم: د. مظهر محمد صالح ..
1- امضيت ليلتي بشغف غامر اتصفح ما تناوله الكاتب والاكاديمي المصري محمد الخشت في قضية العقل المغلق الذي وصفه كالحجارة المظلمة التى لا نوافذ لها.. إنها لا ترى النور، ولا يمكن لمن بداخلها أن يرى شيئا ….ولا يتنفس إلا هواء قديما، أما أكسجين الحياة فلا يمكن أن يصل إليه!
وان صاحب العقل المغلق أشبه ما بالطفل فى رحم الأم، كل عالمه هو هذا الرحم، وهو غير متصل مع العالم الخارجى، ولا يمكن لأحد أن يحاوره، ولا يمكن أن يخرج من هذا العالم المغلق بإرادته، إنه يظن أن الخروج من هذا العالم مهلكة، وهو يصرخ بأعلى صوته ويتلوى ويرفس عند إخراجه قسراً!.
2- استقيظت صباحاً بعد ان انبلج الفجر وانا اتقلب بين الزهد في نعيم الامس وبين الكسل من احلام اغدقت على ذاكرتي فضولاً من آمال غامضة، فلم اجد الا امنية واحد لازمت مخيلتي وهي يسبح في احلامها قصة لثلاثة رجال من بلادي ، ممن امست امنياتهم تصبوا طوال ليلها ترنوا في الخلاص من ضلال نباحها لا يتعدى طيش البشر.
ظل عقلي في حوار طويل اشتبك فيه كفي على رفوف ذاكرتي وهي تتصفح رسائل رقمية تدفقت من صناديق التامل لثلاثة من المفكرين بلاد الرافدين .فبعد ان تموضعت تلك الرسائل برفق على تلك الرفوف ، اتفقت الكلمة فيها جميعاً تحدثك عن عنوان واحد هو : انغلاق العقل البشري .
فالرسالة الاولى : جاءت بكلمات واضحة صوْب فيها الكاتب العريق والمفكر زيد الحلي ظاهرة الغريب في انغلاق العقل البشري بالقول:((تسلمت رسالة ، غريبة في محتواها ، لون سطورها شاحب ، ومضمونها نميمة ، بثوب النصيحة ، وصلتني من قارئ ، لم يكتب اسمه ، وغرابتها تمحورت حول شأن خاص بي ، ولا اظن ان من حق القارئ ( الغامض ) ان يوجه كل حروف ” النُصح ” لي ، ليس لأنني اخطأت في شيء لا سامح الله ، بل لأنني كما تشير الرسالة ، دائما ما اكتب عن اصدقائي مشيدا بهم ، ولاسيما في صفحتي على وسائل التواصل الاجتماعي .. وقد حرتُ في مغزى هذه الرسالة ، ودواعي ارسالها لي ، وهل هي من صديق ( قديم ) تقطعت معه سبل التواصل ، فدبت ( غيرته ) ، فكتب ما كتب ، او ان في نفسيته شائبة معينة .. فله اقول : ان الصداقة الحقة في هذا الزمن المضطرب ، هي من هدايا الرحمن ، فهي عقل واحد في جسدين.. فهل هناك اجمل من ذلك ؟قديماً ، شاعت مقولة مفادها ان اعظم ملفات الانسان .. هي حياته وان تنظيم حياة الانسان الشخصية تبعده عن الهموم وتطيل مشواره في الدنيا ، وان الانسان يمكن ان يصادق نفسه اولاً ، قبل ان يفكر في صداقة الآخرين وانه يستطيع ان يحاور نفسه بنفسه ، وبطبيعة الحال فان هذا المنحى خطير في الطبيعة البشرية .. وكثيرا ما أحدث نفسي وانا اشاهد بعض الذين ابتلوا بفقدان الصداقة ، بالقول ان الماء إذا ما سكن ، اصبحت صفحته كالمرآة يرتسم فيها كل شيء وكذلك الصداقة العميقة ، لا تصفو ولا ترتسم الاشياء في صفحتها ، واضحة إلاّ اذا هدأت النفوس وسكنت .. فالصداقة مرآة النفوس الرقيقة ..ولصاحب الرسالة ، مهما كانت مراميها ، اشير الى ان المرء اذا ما حظيّ بصديق ، صدوق ، فأن الحياة تكون امامه جميلة حتى لو اعتراه خطب او ألم او معاناة ، فالصديق الحق لا يجعل نفسك تهرب الى الظلام لتحاكيها خلسة ، بل ستجده معك تحاوره ويحاورك ، وان الصديق الذي تهواه نفسك ، هو الشخص الذي يعرف أغنية قلبك ، ويستطيع أن يغنّيها لك عندما تنسى كلماتها !هنيئا لي بأصدقائي ..)).
اما الرسالة الثانية التي تسلمتها في الصباح نفسه كانت من الكاتب والمفكر عقيل الخزعلي وهي تتحدث بشجاعة نبيلة عن صراع الاضداد بين العقل المنغلق في العنف والقهر ، والعقل المنفتح في السلام والمحبة بالقول:
((لا تهدر طاقتك،ولا تستنزف وقتك) في محاولة استرضاء؛(الغيورين والحاقدين والحاسدين والنرجسيين)، لأن نفوسهم المريضة ستفسر ذلك ضعفاً فيزيدوا من إيغالهم في أذيتك،
تقدّم وزدهم غيظاً، وإستكفِ بالإتقانِ والإحسان في المضمون والعنوان،
فكلما إرتقيت كلما إستغنيت ،
وكلما استغنيت كلما قويت
في الإرتقاء يتحقق الإستغناء
وفي المهارات تُقضى الحاجات)).
وجاءت الرسالة الثالثة وهي تتناول معضلة الانسان في التفاعل والانفعال لفك لغز في معبد العقل البشري المغلق ،اذ ظلت طقوسه هي ممارسة( الطَّيش) والتي يحدثنا عنه المفكر والكاتب حسين العادلي قائلاً: ((طَيش السّلوك (نَزق) عَقل، ونَزق العَقل (خِفَّة) حِكمَة، وخِفَّة الحِكمَة من (تَفاهَة) التجربة.
• (الأهداف) تبكي بين يَدَي الطَّائش!!
• الطَّيش فعل (مَنحور)، والتَسَرُّع فشل (مُستَقدَم).
• السَّهم الطَائِشَ أخطر من السَّهم القاصِد، لأنه (يُباغِت)، كذلك (الحَماقَة).
• يكثر (الطَّيش) في ثلاث: في المُراهَقة، وعند الثأر، وبين يَدَي السّلطة.
• طَيش (الثّوار) الأيديولوجية، وطَيش (الحكّام) السّلطة!!
• لا تأمَل رُشْد الحَاكِم إن كان الشَّعب (سَفيهاً)، ولا ترجو رُشْد الشّعب إن كانت النُّخبة (طَائِشَة).
• لا يبلغ (الحُكْم) سِنَّ الرُّشْدِ، ما دامت السياسة (طَائِشَة))).
3- من هنا اجابت ذاكرتي بعد ان سكنت الرسائل الثلاثة في رفوفها وهي تتداول العقل المغلق بصمت قائلة في سرها : من روائع الحكمة ان الرسائل الثلاثة تحدثت عن العقل الطائش بكونه ديناميكية سالبة للعقل المغلق .فاخطر (الطيش )عندما تتلقى نصيحة من (طائش )في سن اليأس يسدي اليك النصيحة وهو موغل بنقص التقدير واعوجاج المسار في تداول الاحداث والافكار والرؤى ويحدثك عن افعال متقلبة
وهو يتصيد في رؤيتك الأخلاق المقبولة للمجتمع على نحو يقلب الحقائق فيها.
وصلني من صديق فجر هذا اليوم وهو كاتب ومفكر متميز جدا يقول لي هناك من يعاتبني من الاصدقاء اللدودين عن كتاباتي وبكلمات صفراء (طائشة) تنم عن حقد ،مليئة بالغيرة والحسد …!!!وكان جوابي له :يتلقى كل انسان ناجح على الدوام سطور (مكفهرة) من أناس فاشلين ، انها ظاهرة مرضية من امراض عالمنا الثالث ، فهي ليست نصائح من ذلك المرسل …صدقني هم قوى محبطة (طائشة ) غير متصالحة مع ذاتها … فخطاب الكراهية عادة ما يصدر بنصيحة خبيثة …!!
اواجه شخصيًا العديد من هذه الشخوص الميتة المتحركة بكلماتها الصفراء …فهم لايكفون عنك طالما قلمك يكتب وعقلك يفكر وضميرك يشق الصفوف بالمروءة … فالقافلة الفكرية تسير وكلاب الجهل الطائش تنبح بلا هوادة .
4- ختاما، عدت ثانية الى الكاتب المصري محمد الخشت ،كي اكتشف انه هو الاخر تناول ( الطيش ) بكونه الديناميك السالب للعقل المغلق ،حيث ختم حديثه بالقول:(( أن العقل المغلق ينتقل من الموقف لنقيضه تبعا لأوهامه التى تتخذ نقطة ارتكاز مخادعة، ونقطة الارتكاز ليست هى الدين أو الوطن أو المصالح العامة، إنها فقط أهواؤه ومصالحه الشخصية المؤقتة. وهى نقطة مخادعة لأنه يوهم نفسه ويوهم الآخرين فى كل مرة أنها نقطة ارتكاز الدين أو الوطن، بينما هى فى الحقيقة نقطة ارتكاز مصالحه الشخصية!
وحتى لا أطيل على القارئ، ألخص له مجموعة السمات التى يتسم بها صاحب العقل المغلق، وهي:
• الاستئثار بالحقيقة، أي يزعم أنه وحده الذى يعرف الحقيقة!
• عدم الرغبة فى فتح قنوات للحوار مع الآخر.
• إذا اضطر لفتح الحوار لا يقدم أية تنازلات.
• لا يدخل فى عهد إلا إذا كان ضعيفا ومضطرا، وعندما يقوى يقوم بنقضه على الفور.
• التلون هو سلاحه الذهبى فى خداع الآخرين.
• إذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر.
• لا يبحث عن الأرضية المشتركة مع التيارات الأخرى.
• ينغلق على نظام قيم معين بصورة جامدة.
• ثقافته التسلط، حيث الرغبة فى التحكم التام فى الآخرين وفرض أفكاره ورغباته وطريقة حياته عليهم.
• نفي الآخر، اي يرى المخالفين له على الباطل المطلق أو كفرة!)).
(انتهى)