بقلم: فالح حسون الدراجي ..
ثمة علاقة وشيجة بين حركة اليسار في العراق، لاسيما طليعته الحزب الشيوعي العراقي، والرياضيين العراقيين بمختلف ميادينهم والعابهم.. ولا أخالف الحقيقة، أو الواقع، إذا قلت إن الرياضيين العراقيين هم الاكثر قرباً لحركة اليسار من غيرهم.
ولا أعرف السر في ذلك، لكن الفضل ربما يعود لحركة اليسار ذاتها، فهي التي سعت الى تعزيز هذه العلاقة، واشتغلت على احتضان الرياضيين، والدفاع عن حقوقهم، وتسليط الأضواء على بطولاتهم، وكشف احتياجاتهم ومتطلبات نجاحهم، فضلاً عن ان بعض قادة الحزب الشيوعي أنفسهم كانوا رياضيين، او ناشطين في الحقل الرياضي، مثل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي الأسبق الشهيد سلام عادل الذي كان رياضياً تربوياً معروفاً..
إن ذاكرتي تحتفظ بأكثر من 300 اسم رياضي عراقي انتموا للحزب الشيوعي العراقي، أو كانوا من مؤيديه وأنصاره، وبينهم من دفع حياته ثمناً لهذه العلاقة الوطنية المشرفة.. والشهيد بشار رشيد أحد هؤلاء الأبطال.
وللعلم أيضاً، فإن البطل العراقي عبد الواحد عزيز، الحائز على الميدالية الأولمبية العراقية الوحيدة، كان شيوعياً، أو نصيراً للحزب.. وإن أكثر من نصف فريق السكك، وفريق البريد، وفريق الميناء، وفرق الشرطة، والكهرباء، كانوا ينتمون للحزب الشيوعي أو من المحسوبين عليه.. وللعلم أيضاً، فقد كان هناك اكثر من لاعب في فريق القوة الجوية والفرقة الثالثة والمشاة وغيرها من فرق الجيش، محسوبين على حركة اليسار التقدمية ..
ولأن عدد الرياضيين الوطنيين التقدميين، كبير، فقد تعذر عليّ ذكر كل الاسماء في هذا المقال، لكني أعد القارئ الكريم بكتابة أكثر من مقال عنهم قريباً. لقد اختصرت مقال اليوم عن اليساريين باسم واحد، ألا وهو اسم النجم اللامع عبد كاظم، البطل الذي صادف اليوم – 5 كانون الثاني- ذكرى رحيله الثامنة عشرة.. وطبعاً فإني لن أتحدث عن عبد كاظم كصديق يستذكر صديقه في ذكرى رحيله، لأن فكرة المقال مدرجة منذ فترة ضمن فقرات مشروعي: (شيوعيون من نوعية خاصة)..وعبد كاظم عاش ومات (شيوعياً من نوع خاص).. فهو يشترك مع الشيوعيين العراقيين في مزايا وصفات أخلاقية عدة، من بينها (الوطنية)، نعم، فقد كان الرجل وطنياً حقيقياً، وعراقياً خالصاً، حتى غدت وطنيته مثالاً يضرب، وكلاماً لن ينقطع الحديث عنه في الصحافة والاعلام الدولي قبل العراقي .. ولان (أبا فراس) رجل شجاع جداً، وبطل جداً، وفارس لا يشق له غبار في المواقف والمبادئ والقيم الوطنية، ولأنه نزيه وشريف ومضحٍٍ، فقد بات من الطبيعي أن يرتبط اسمه باسم الحزب الشيوعي العراقي، وكان من المنطقي أيضاً أن يرى الناس ملامحه، في صورة حزب المضحين، النزهاء.
لقد منح الجمهور العراقي عبد كاظم اسماءً مجيدة، كما أطلقت الصحافة عليه القاباً عدة من بينها ملك التغطية، والفارس العنيد، واللاعب المثالي والفدائي العراقي، بعد اصابته بشج في رأسه عند الدقيقة الثالثة من مباراة العراق واستراليا الشهيرة في تصفيات مونديال المانيا التي جرت في سدني عام 1973، ويعود الى الملعب معصوب الرأس، والدماء تغطي جبينه، اثر ارتقائه مع لاعب استرالي بكرة رأسية مشتركة انتهت بفقدان اللاعب الأسترالي لثلاثة اسنان، مقابل جرح عميق في رأس عبد كاظم مكملاً الـ 90 دقيقة من المباراة والدماء تنزف كلما ضرب الكرة برأسه، فكتبت عنه، وعن فدائيته، الصحافة الأسترالية ما لم تكتبه عن بطل غيره من قبل.
ولعل مواقفه الوطنية التي لا تعد ولا تحصى جعلت منه شيوعياً في نظر الناس حتى وإن لم ينتمِ للحزب.
وأجزم أن عبد كاظم هو اللاعب الوحيد الذي تم تبليغه من قبل الثوار بالمشاركة في حركة حسن السريع الباسلة في 3 تموز عام 1963، ولم يكن عمره تجاوز السابعة عشرة، فيحمل سلاحه ويقف على طريق الدورة، منتظرا وصول التعليمات.
وعبد كاظم ذاته من وقف معارضاً لنظام صدام في الداخل وفي الخارج بعد أن غادر العراق في مطلع التسعينيات.
وأذكر عن جسارته، مرة كنا نتناول فيها العشاء في بيته بحضور السيدة الفاضلة ام فراس، ونجله العزيز فراس، وقد سألته عن سر شجاعته الفذة، وجسارته التي تجعله يواجه الموت دون أن يرمش له جفن.. قائلاً له: أنا أعرف أنك تحب الحياة، جداً، لكنك لم تعرها أي اهتمام، ولم تبذل جهداً من أجل الحفاظ عليها.
فقال ضاحكاً: أنا أكثر من يحب الحياة، لكني اكره الرتابة والمألوف والتقليد والاستسلام، وأكره الظلم فيها، حيث يقول الشاعر العظيم بابلو نيرودا:(ميت هو الذي لايقلب الطاولة، ولا يسمح لنفسه ولو لمرة واحدة في حياته بالهرب من النصائح الاستسلامية) .
ثم اكمل قائلاً: ” أنا أحب الحياة والجمال والتجديد لكني مستعد أن اموت الف مرة ولا ارى دمعة واحدة تسقط على خد طفل عراقي جائع، بينما أمه وابوه يعجزان عن توفير اللقمة التي تشبعه”.
نعم، هكذا كان أبو فراس انساناً نبيلاً، مثقفاً، واضحاً في مواقفه الانسانية والوطنية، لاسيما التي تتطلب موقفاً شجاعاً مميزاً، ولايخشى أحداً قط.
لذا فإنك حين تتحدث عن عبد كاظم الشجاع الواثق، فكأنك تتحدث عن جبل يمشي على قدمين، ولما تتحدث عن فارس لم ولن تنجب الملاعب والميادين مثله، فلابد أن تضع اسم عبد كاظم، دون ان تفكر او تنتظر لحظة واحدة..
إن اسم عبد كاظم الذي لمع منذ عام 1965 حين مثل فريق اليات الشرطة، ومن ثم المنتخب العسكري الذي فاز معه ببطولة العالم العسكرية عام 1972 ، ومنتخب العراق الوطني، كان من الناحية الاجتماعية انموذجاً فذاً، إذ يكفي القول، إن اصدقاءه وجمهوره ومحبيه قد بكوا رحيله أكثر منا نحن – أهله، والقريبين منه- بسبب مواقفه الاجتماعية التي يتحدث عن روعتها الناس حتى بعد ثمانية عشر عاماً من رحيله، بدليل ان رفاقه واصحابه لم ينقطعوا عن اقامة احتفاء استذكاري في يوم رحيله كل عام، حيث يقام الاستذكار في قاعة الجواهري باتحاد الأدباء، ويحضره في كل مرة أحد قادة الحزب الشيوعي، فضلاً عن العديد من اصحابه ومحبيه، فتلقى الكلمات والقصائد والاستذكارات الشخصية.
ختاماً، أتذكر أني كتبت وإياه قبل اثنين وعشرين عاماً ثلاث حلقات تتحدث عن الرياضيين العراقيين الذين أعدمهم واغتالهم نظام صدام، كذلك اسماء الرياضيين المعتقلين والقابعين في سجون النظام الفاشي، وقد نشرت هذه الحلقات التي ضمت اكثر من ٤٠٠ اسماً من مختلف العقائد السياسية، والطوائف، والقوميات والأديان، في مجلة (رسالة العراق) التي تصدر عن الحزب الشيوعي العراقي في لندن، ويشرف عليها عضو اللجنة المركزية للحزب فائق بطي، وقد وضعنا اسمينا على هذه الدراسة، لكن الرفيق بطي فضل نشرها بدون اسمينا حفاظاً على سلامة عوائلنا في العراق، رغم اصرار أبي فراس على ذكرها، فنشرت الحلقات، وتحقق الهدف. ويوم تلقيت خبر رحيل عبد كاظم في مثل هذا اليوم، كنت في امريكا.. ورغم انهياري، فقد أقمت مجلس فاتحة في أحد أهم مراكز الجالية العراقية في ساندياگو، بل وكتبت قصيدة، قرأتها في مجلس العزاء، وقد نالت اعجاب كل من سمعها.. رغم أني لا أجيد النظم السريع أثناء الأحداث الجسام !! هكذا رحل عبد كاظم، ذلك الشيوعي الذي قد لم ينتمِ، واليساري الفذ، بل وكابتن اليسار الرياضي في العراق،