بقلم: فالح حسون الدراجي …
ثلاثة مواجع تكسر قلبي: دموع أمي (ونواعيها) بصوتها المفجوع صباح كل عيد.. وأي رحيل لصديق عزيز خصوصاً إذا كان الرحيل في غير أوانه، و (هضيمة) شاعر محترم.
والحالة الثالثة تؤلمني أكثر.. إذ ليس سهلاً عليّ تقبل فكرة إهانة واذلال شاعر، أو احراجه، أو ثلم كرامته، فالشاعر – لاسيما العراقي- وريث شرعي لكبرياء المتنبي، الذي فضل الموت محتفظاً بكبريائه، على العيش ذليلاً هارباً أمام سيوف قاتليه.. وهو سليل كرامة (النواب) الذي مات ولم يمد يده لرئيس دولة أو ملك.. وسيداهمني الألم ذاته حين يعجز الشاعر عن توفير لقمة العيش التي تسد رمق أطفاله، أو توفير الدواء لزوجته، او ايجاد الملاذ الآمن لأسرته، وأقسم أن عيني هجرت النوم ثلاث ليال كاملة، لأن شاعراً كبيراً طلب مني المساعدة في ظرف كنت فيه عاجزاً عن توفير طلبه، فمضيت الى رئيس وزراء العراق آنذاك أطلب مساعدته في موضوع صديقي، لكن دولته اعتذر – ولا أعرف السبب حتى هذه اللحظة- رغم أن صديقي الشاعر لم يطلب سوى علاجه، فاضطررت الى مقابلة الدكتور برهم صالح، نائب رئيس الوزراء، وقتها، وكانت لي معرفة به، عن طريق السفيرة الحالية صفية السهيل.. وقد التقيته في بيتها، وقلت له: هل سمعت بالشاعر الفلاني؟، فضحك وقال: طبعاً، وهل يخفى القمر؟ وقد زاد على ذلك أن قرأ لي بيتين من إحدى قصائد الشاعر المشهورة.. ولما اخبرته بالمشكلة.. قال: ولا يهمك كاكا فالح.. هذا الأمر بسيط جداً.. !
وحلّ الدكتور برهم مشكلة علاج الشاعر حالاً، إلا أن الموت لم يمهل شاعرنا سوى سنوات معدودة، ليخطفه بعدها، ويفجعنا برحيله المبكر ..
لكن للتاريخ لساناً ينطق، وذاكرة تحفظ، فموقف الدكتور برهم مسجل، وموقف رئيس الوزراء مسجل أيضاً.. وشتان ما بين الموقفين!
لقد ذكرت هذه الحكاية دون أن أكشف الأسماء، لاني قصدت بيان العبرة، وليس الطعن والاساءة. وحتماً فإن هناك أكثر من شاعر طحنته الأمراض، وأوجعه العوز وأدمت قلبه الظروف دون أن تمتد له يد الدولة لتساعده وتعينه على محنته، وظل هذا الأمر يوجعني كلما التقيت بشاعر عزيز، ألمح العوز في عينيه دون أن يشكو لي ظرفه، أو يعرض معاناته.
واليوم اتحدث عن شاعر غنائي مؤثر في الساحة الغنائية، كتب احلى واروع الأغنيات التي تغنى بها الناس في افراحهم واحزانهم ومناسباتهم الوطنية والاجتماعية والرياضية.. وهنا يحضرني اعتراف جميل أدلى به كاتب كبير ، وهو يخاطب أحد المؤرخين قائلاً” لا تحدثني عن من يحكم المدينة والناس، إنما حدثني عن من يكتب أغنياتهم” !
ولكم أن تقدروا عبر هذا الرأي المنصف، أهمية الشاعر الغنائي في سلم الإبداع، وقيمته واعتباره في المجتمع المتحضر، وانظروا كيف يتعامل الإنگليز مثلاً مع اسم وإرث الشاعر الغنائي وليم شكسبير، أو الشاعر لوركا وغيرهما من أفذاذ الشعر.
أما حكايتي اليوم عن صاحبي الشاعر الغنائي، فهي حكاية موجعة جداً، تبدأ من اتصال تلفوني أجراه صديقي الكاتب الجميل رحيم يوسف معي قبل خمسة أيام، ولأني كنت نائماً، فقد ترك لي رحيم رسالة، يشكو فيها حالة صديقنا العزيز، الشاعر الغنائي الكبير جبار صدام، وقد دسّ رحيم بين سطور رسالته، أبوذية كتبها الشاعر جبار صدام، فيها عتب (حلو)، يشكوني فيها الى والدي المرحوم أبو خيون قائلاً في قفلها: (أبوحسون ما يسأل عليه)
، ولا أخفي عليكم، فقد شعرت بالقهر والألم مرتين، مرة لعدم سؤالي عن زميلي وصديقي ( أبو سوزان)، ومرة للحالة الصعبة التي وقع فيها هذا الشاعر المهم..
تصوروا أن كبرياءه منعه من عرض مشكلته عليّ بنفسه، فأوكل بالمهمة الى صديقنا المشترك رحيم يوسف.. ليرويها لي.
ولمن لايعرف جبار صدام، أقول: هو أحد أبناء جيلي، أو الجيل الذي جاء بعدي، شاعر موهوب جداً .. جداً، وأجزم أنه واحد من ثلاثة، يستطيعون كتابة نص غنائي جيد خلال خمس دقائق فقط إن استدعت الضرورة، أما الشاعران الآخران اللذان يشاركانه هذه الميزة الاستثنائية، فهما الشاعر الراحل عادل محسن رحمه الله، والشاعر كاظم السعدي أطال الله في عمره.. وعدا موهبة جبار المميزة، ووسامته وصحبته الحلوة فهو رجل شجاع، وغيور بكل معنى الكلمة، مزدحم بالمشاعر الوطنية الصادقة، ومعروف بكرهه ومواقفه المشاكسة لنظام صدام الدكتاتوري، وله في ذلك مواقف كثيرة دخل في بعضها السجن.
كتب جبار صدام عشرت إن لم أقل المئات من الأغاني قدمت بأصوات كبار المطربين والمطربات العراقيين والعرب، أذكر منها أغنية (زعلان الاسمر ما يگلي مرحبه) التي صارت في وقتها أغنية الشارع العراقي بجدارة، وكتب أغنية ( حتى إنت الربيت بهاي العيون)، وهذه الأغنية تعد الأقرب الى قلبي، وأغنية ( لو تصاحب خوش صاحب، لو تظل بغير صاحب).. كما غنى له الفنان العربي لطفي بوشناق أغنية جميلة، فضلاً عن عدد غير قليل من الأغاني الرائعة.
والآن: ما هي مشكلة هذا الشاعر الوطني الجميل؟
إن مشكلته كما رواها لي صديقي رحيم يوسف، تتمثل في إشكال حصل بينه وبين ديوان الوقف الشيعي وامانة بغداد، وصل فيه الأمر الى مطالبة الشاعر باخلاء البيت الذي يسكنه، وهذا يعني تشريده مع عائلته، رغم أنه صاحب حق، ولديه عقد، وقد شيد بيتاً جميلاً بناءً على هذا العقد.. وكي لا أتعب القارئ في تفاصيل هذه المشكلة، فإني أضع معاناة هذا الشاعر الجميل امام رئيس الوزراء (ابن العمارة) محمد شياع السوداني، راجياً منه استدعاء الشاعر جبار صدام، وسماع القضية من لسان صاحبها، وفهم الموضوع منه مباشرة، فإن كان له حق، أرده له، وإن لم يكن، فما له ولا لنا عليه حق، سوى نخوة ابن الجنوب وغيرته المعروفة. أطلب هذا المطلب من دولة الرئيس، رغم إني أعلم جيداً أن مشاغله كثيرة، وكبيرة تفوق المعقول، ولكن ما في اليد حيلة، فالأخوة في ديوان الوقف الشيعي وامانة بغداد، كما يبدو مستقتلون، وزميلنا الشاعر عاجز بمفرده عن التصدي لجبروتهم، ولن يقدر أحد على إعادة الحق لصاحبه سوى دولة الرئيس.
ختاماً أقول: إن مصادرة بيت مواطن مع عائلته، تعد جريمة كبيرة، فما بالك حين يكون هذا المواطن شاعراً رقيقاً لايملك غير موهبته سلاحاً، وكيف سيكون الأمر حين يكون هذا الشاعر : جبار صدام ؟!
إنه أمر مفجع، ومفزع، ولا أستطيع تخيله .. لذا يتوجب التصدي لهذه الجريمة قبل وقوعها !