بقلم: فالح حسون الدراجي …
صورتان تكررتا عندي لمرات عديدة مع مسؤولين كبار في حكومات ما بعد التاسع من نيسان 2003، ولا أعرف إن كان لهاتين الصورتين وجود قبل سقوط نظام صدام أم لا، لأني بصراحة لم أكن مرتبطاً بصداقات شخصية مع مسؤولين كبار في ذلك النظام كي أعطي رأياً بضرس قاطع.
لكن المهم أن الصورتين وإن كانتا متناقضتين في الشكل والملامح، لكنهما مرتبطتان بجوهر ومعنى واحد.. وأقصد بذلك جوهر وشكل العلاقة مع صديق يصبح مسؤولاً في الدولة، وما إذا كانت ثمة متغيرات ستطرأ على هذه العلاقة.. وهنا سأضطر لذكر الأسماء في هاتين الصورتين، أو المثالين، لأقرّب القارئ الى مركز الصورتين، وتفاصيلهما..
الصورة الأولى: تتمثل
بصديقي المهندس عبد الحسين المحمداوي، أحد أبناء محافظة ميسان والذي تعرفت عليه حين كان يعمل لسنوات مديراً عاماً لدائرة العقارات في أمانة بغداد، وقد توطدت علاقتنا سريعاً، لنصبح صديقين قريبين جداً من بعضنا.. وللعلم فقد كان موقع المحمداوي الذي يشغله مهماً جداً، بحيث يحتاجه (الوزير والغفير) كما يقول المصريون، وللأمانة، فقد كان أبو علي مديراً عاماً بحق وحقيق، من حيث الكفاءة والقدرة والحزم والثقة والإعتداد بالنفس، وكان الرجل في هذا المنصب، يقف على بوابة ( كنز )، يتكون من عشرات الآلاف من قطع الاراضي الثمينة، وكذلك العقارات والبيوت والفلل في العاصمة بغداد، وما يعزز اهمية منصبه، أن لديه مساحة من الحرية التي تجعله يتصرف دون ضغوط أو سلطة عليه.
لذلك، كان يتودد اليه أكبر المسؤولين في الدولة، وأظن أن سبب ذلك التودد معروف للقارئ.. حتى أني أتذكر امراً حدث امامي قبل عشر سنوات تقريباً، حين جاءه مدير مكتب وزير الدفاع، ومعه كتاب رسمي يتضمن تخصيص قطعة أرض لمعالي الوزير، مختومة بختم رئيس الحكومة نوري المالكي، وقد أراد موفد الوزير أرضاً بموقع ممتاز جداً – حدده هو بنفسه- لكن أبا علي رفض ذلك، وقال إن الأمر ليس حسب رغبة المعالي، إنما حسب المتاح والمتوفر، وحسب الضوابط أيضاً .. وهنا قام الموفد بالاتصال بالوزير، ليخبره بقرار مدير العقارات، فطلب الوزير أن يتحدث مع المدير. وبعد التحية والسلام، قال ابو علي للوزير الكلام ذاته الذي قاله لموفده، وانهى المكالمة سريعاً، ثم التفت لموفد الوزير وهو يناوله هاتفه قائلاً: اعتذر جداً.. الضوابط القانونية واحدة، ولا أحد يقف فوق القانون حتى لو كان وزيراً للدفاع! وخرج الموفد من مكتب ( ابو علي) غاضباً !
بعد ثلاث أو اربع سنوات
-وهنا زبدة الموضوع- أعفي صديقي عبد الحسين المحمداوي من منصبه، وظل قاعداً في بيته أكثر من سنة ونصف، فانقطعت عنه زيارات، واتصالات أصدقائه التي لم تنقطع عنه ساعة واحدة حين كان (ملكاً) في منصبه..
ويكمل ابو علي حديثه لي حين زارني في امريكا قبل فترة، قائلاً: ثق لو قلت لك أن لا أحد اتصل بي طيلة مغادرتي المنصب، سوى أنت وأربعة او خمسة أصدقاء ، وافراد اسرتي، حتى أني شعرت بمرارة وأسى فادح إذ لا يعقل ان ينقطع عني الاصدقاء بهذا الشكل لمجرد أني غادرت المنصب !!
ويكمل أبو علي حديثه قائلاً: وفي صبيحة يوم من الأيام، وعلى غير المعتاد، راح التلفون يرن لعشرات المرات في اتصالات متتالية لا تتوقف، وكنت أتجاهلها جميعاً، ولا أرد على أي منها، حتى قلت لزوجتي: اليوم التلفونات ما وگفت شنو القضية.. قابل صار انقلاب لو لا سمح الله احترگت بغداد؟
فقالت زوجتي ضاحكة: خاف رجعوك للمنصب !
فضحكنا، وبعد دقائق دخل شقيقي المهندس عبد الكريم وهو يقول لي: شنو ما عرفت .. لقد صدر قرار بإلغاء اعفائك حالاً، وإعادتك لمنصبك كمدير عام للعقارات !
نظرت لزوجتي وابتسمنا سوياً.. فقد حللت زوجتي الأمر وفسرته صحيحاً ..!
الصورة الثانية، التقطتها من علاقتي بالسيد قاسم الاعرجي حين كان وزيراً للداخلية، وقد تعمقت علاقتنا جداً، بحيث لا يذهب السيد الى مكان ما إلا ويصحبني معه اعتزازاً.. وأخوةً.. وحين انتهت فترة الحكومة التي كان وزيراً فيها، واصبح الرجل بلا منصب، انقطع عنه الكثير من الذين كانوا يتملقون اليه باتصالاتهم اليومية، ومسجاتهم، وبصماتهم الصوتية المعطرة باجمل عبارات الود والمحبة.. بل أن بعضهم حاول بطريقة أو أخرى الاساءة الى شخصه الكريم، بعد أن ظن وتصور أنه لن يعود مرة ثانية للمنصب!
لكني، ومعي عدد قليل من الاصدقاء لم ننقطع عن التواصل مع السيد، بل أنا شخصياً ازددت في اتصالاتي معه، وزياراتي له خلال الفترة المظلمة التي قعد بها في بيته.. إنه صديقي وأخي العزيز .
لذلك كنت أول شخص يتصل به سيد قاسم ويخبره بقرار تعيينه مستشاراً للأمن القومي.. ورغم أن سيد قاسم ليس من هواة المناصب، ولم اره يوماً يسعى أو يبحث عن منصب، رغم جدارته واستحقاقه لإشغال الكثير من المناصب المهمة .. لكني وجدته فرحاً حين أسند له منصب مستشار الأمن القومي، وقد يكون السبب في ذلك، بعض ما لمسه من جحود لدى بعض اصحابه حين غادر منصب الوزارة، فدفعه الى ان يقبل المنصب حتى لو كان دون استحقاقه !
والشيء نفسه فعلته مع صديقي عرفان الحيالي، الذي تربطني به صداقة عمرها أكثر من ثلاثين عاماً،إذ بقيت على تواصلي الحميم معه بعد مغادرة منصبه كوزير للدفاع، وكذلك فعلت مع صديقي عثمان الغانمي بعد مغادرته لمنصب وزير الداخلية، وكذلك بعد مغادرة الصديق علي العلاق لمنصب محافظ البنك المركزي، حيث بقيت متواصلاً معهم جميعاً، ومحافظاً على درجة (حرارة) العلاقة والتواصل، بل ربما ازددت في ذلك بعد مغادرتهم مناصبهم.. بدليل أني جئت الى العراق بزيارة سريعة أمدها أربعة أيام فقط، زرت فيها الاعرجي والغانمي والحيالي- وهم خارج المناصب الوزارية، بل وتشرفت بتناول الغداء على موائدهم الكريمة في بيوتهم رغم ضيق وقتي..
وفي ختام مقالي أود أن أقول، إن للصداقة حقوقاً، وللصديق عندي منزلة لا تقل عن منزلة الشقيق، ويشهد لي كل اصدقائي بما أقوله، بأني حافظت على جوهر صداقتي معهم جميعاً دون استثناء، لاسيما اصدقائي القدامى حيث كنت ولم أزل أنظر لموقع الصداقة نظرة التقديس والتبجيل.
لذا أتمنى على أبناء الأجيال الجديدة أن يستفيدوا من تجاربنا في موضوع الصداقة، فمثلاً لي صداقات مع أشخاص مضى عليها اكثر من نصف قرن ولم تزل لامعة، عطرة ودافئة، دون أن تصيبها علة أو خدش .. كما ارجو أن يتعلموا منا الحفاظ على الصداقة كما يحافظوا على عيونهم.. وأن يجدوا لأصدقائهم العذر، قبل أن ينطق أصدقاؤهم بأي عذر.. وأهم ما في الصداقة أن يتفهم الصديق ظروف صديقه، كما تفهمتها أنا مرات عديدة، وآخرها كان هذه الأيام، حيث انقطع الدكتور علي العلاق عن التواصل معي، منذ اليوم الذي عاد فيه محافظاً للبنك المركزي، بحيث لم أعد أتلقى وروده وتحياته الصباحية مثلما كان قبل العودة، وطبعاً فإني لم انزعج، أو أعتب، أو أقابله بالمثل، لأني أعرف أنه يتصدى اليوم لقضية خطيرة، تخص الوطن ومعيشة المواطن، وهي عندي اكبر من ورود التحية والسلام، واكبر من العلاقة ذاتها.. !