بقلم: فالح حسون الدراجي …
يقل أمين سر حزب البعث علي صالح السعدي، الحقيقة كلها، إنما قال نصفها، حين صرح الى الدكتور لطفي الخولي في بيته بالقاهرة، في منتصف ستينيات القرن الماضي، وامام عدد من الصحفيين والمثقفين المصريين: (لقد جئنا الى السلطة بقطار أمريكي)!
ورغم أن مزاج مجلة الطليعة ورئيس تحريرها الدكتور الخولي، كان (ناصرياً)، إلا أن الرجل فعلها، ونشر (القنبلة)، فأحدث بنشرها انفجاراً سياسياً واعلامياً كبيراً .. حتى أن بعض القياديين البعثيين الذين شعروا بالفضيحة، حاولوا إنكار هذه التبعية، وتسفيه قول (رفيقهم) السعدي عبر تصويره بالرجل المخمور، الذي لايعرف مايقول، أو أنها مجرد (زلة لسان) !
لكن السعدي كرر القول ذاته عدة مرات، معترفاً أمام أناس آخرين كان من بينهم الصحفي يونس الطائي، ووزير المعارف -أي التربية- اسماعيل العارف، والشاعر الكبير مظفر النواب، الذي استمات السعدي، من أجل أن يلتقي به، ليعتذر له عما حصل في شباط الأسود، ويبوح له بالأسرار والخطايا التي ارتكبها مع رفاقه البعثيين، في محاولة لإراحة ضميره، فتحقق له اللقاء مع الشاعر النواب بعد عدة وساطات، واعترف له بالعديد من الجرائم، كان مجيئهم (بالقطار الامريكي) إحداها.
إن هذا الاعتراف يعد واحداً من أبرز الأدلة على تبعية الانقلاب، (وعمالة) الانقلابيين، وهو السبب الأهم في تعامل الانقلابيين الدموي مع الشيوعيين والوطنيين، إذ تأكد عبره أن التوصيات (والاوامر) الخارجية كانت تفرض عليهم ذلك، وما قائمة أسماء وعناوين العناصر الشيوعية، المطلوب تصفيتها منذ ساعة الصفر حتى الساعة الخامسة والعشرين، والتي قدمتها (السي آي أيه) لقيادة الإنقلاب، إلا دليل مضاف الى هذه الأدلة عن مجيء البعثيين للسلطة بقطار أمريكي.. ولكن رغم خطورة هذا الاعتراف، ورغم قناعتي بما قاله السعدي، فإني أصر على أن الرجل لم يقل الحقيقة كلها، وإن ثمة نصفاً مكملاً لم يقله، فالقطار الذي حمل العصابات البعثية في شباط 1963، وإن كان بماكنة أمريكية، إلا أن كل عرباته، ومكوناته وادواته كانت مصرية – ناصرية -، مع عدم اغفال الدور البريطاني والكويتي والايراني الشاهنشاهي، والأردني، وأيضاً دور الملا مصطفى البرزاني المؤيد للانقلاب، وفتوى السيد محسن الحكيم، التي استند اليها أفراد الحرس القومي في مذابحهم بحق الشيوعيين والعناصر الديمقراطية العراقية!
ولكن، يبقى الدور الاكبر والاخطر في انقلاب شباط يعود لجمال عبد الناصر ومخابراته واعلامه وسلاحه وامواله أيضاً..
كما أن للقرارات الوطنية التي أصدرها عبد الكريم قاسم، من أجل تخليص العراق من نير الهيمنة الغربية، تعد من أهم الأسباب المساهمة في إحكام خيوط المؤامرة على العراق، ولعل قانون استثمار النفط رقم 80 لعام 1961 قد أثار استياء بريطانيا وشركاتها، وقد عبر عن هذا الموقف الرافض للقرار، القنصل البريطاني في العراق آنذاك بقوله للزعيم قاسم ( إن رفض العراق إلغاء قانون النفط سيضطرنا للسعي لتغيير حكومتكم)
فسأله الزعيم قاسم: هل هذا تهديد.. ؟!
فأجابه القنصل:
(لا لكنه الواقع) !
أما قانون الإصلاح الزراعي رقم 30، الذي أعاد توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين الفقراء وقضى على النظام الإقطاعي، فقد كان كافياً لدفع القوى الإقطاعية والرجعية للتحالف مع أعداء الثورة واسقاطها.. وهنا لا ننسى أيضاً إخراج العراق من حلف بغداد، وتحرير العملة الوطنية من الارتباط بالإسترليني.. وموقف قاسم المساند للثورة الجزائرية عبر تقديم السلاح، وتخصيص مليوني دينار عراقي لدعمها، كما أن اتهام جمال عبد الناصر للزعيم بتحريض ودعم حركة الانفصال في الشطر السوري من الوحدة مع مصر عام 1961كان واحداً من الأسباب التي أدت إلى أن يضع عبد الناصر ثقله في كفة اسقاط ثورة تموز، تؤيده في ذلك الدول الاستعمارية والشركات الاحتكارية، والقوى الرجعية، فبادر ناصر قبل غيره الى دعم المؤامرات ضد الزعيم، ومن بينها مؤامرة الشواف، ورفعت الحاج سري العام 1959، الذي وجدوا في مكتبه بوزارة الدفاع، تليفوناً خاصاً سرياً مباشراً بين وزارة الدفاع ومكتب الملحق العسكري في سفارة الجمهورية العربية المتحدة، وقد أقامت سفارة مصر جهازاً لاسلكياً للاتصال بالقاهرة.. فتذهب عبره التقارير والمعلومات الى عبد الناصر، وتأتي التوصيات والتوجيهات منه الى المتآمرين في بغداد، عن طريق العقيد رفعت الحاج سري نفسه ..
وقد كان من نتائجها ما حدث من جرائم ارتكبها الضباط القوميون في الموصل وكركوك، وإضراب البنزين في أواخر عام 1962، وتظاهرات الطلبة البعثيين، فضلاً عن المحاولة الفاشلة لاغتيال الزعيم قاسم في شارع الرشيد! وقد توجَ ناصر سجل تآمره بجريمة انقلاب شباط 1963، فبات بما لا يقبل الشك أن عبد الناصر كان اليد التي نفذت على الأرض مخطط أمريكا وبريطانيا بإسقاط الزعيم عبد الكريم قاسم وضرب الشيوعيين العراقيين الذين كانوا يسببون صداعاً لا يتوقف لرأس أمريكا والرجعية ..
وللأسف، فقد قام الحزب الشيوعي العراقي بتحذير الزعيم عبد الكريم من وجود تحرك رجعي إمبريالي يجري التخطيط له لإرجاع العراق لحضيرة الأحلاف العسكرية والتبعية الغربية، لكنّ الزعيم لم يكن ليسمع النصح والتحذير !
وقد تأكد لي صحة تآمر ناصر على العراق عبر متابعتي لمصادر عربية ومصرية، واطلاعي على الكثير من مذكرات كبار الساسة، والمخابرات، والاعلام المصريين، بما في ذلك محمد حسنين هيكل، الذي كان الشخص الأقرب والأكثر اخلاصاً لجمال عبد الناصر.. وقد وجدت أن جميع هؤلاء أقروا واعترفوا بالتدخل المصري بالشأن العراقي آنذاك، وبالدور الذي لعبه عبد الناصر في دعم المتآمرين البعثيين والقوميين والعناصر الرجعية التي كانت ثورة 14 تموز قد ضربت مصالحها وامتيازاتها الثرة.
ويعتبر معارضو ومؤيدو عبد الناصر – وهم مصريون – أن موقفه السلبي من قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، ودعمه المادي والتسليحي والاعلامي والسياسي الكبير لانقلاب البعثيين في شباط، وحربه في اليمن، واقامة الوحدة الثنائية مع سوريا بشكل ارتجالي، ودوره الرئيسي في نكسة حزيران 1967، قد ألحقت ضرراً كبيراً بقيمة ووجود مصر، ومستقبلها، وبمستقبل العرب، بل ونسفت كل مقومات التيار الناصري العروبي من الأساس..وقد دفعت الامة العربية ثمن هذه السياسة الفردية، والعدوانية الرعناء !.
لقد كان عبد الناصر شريكاً لوكالة المخابرات الأمريكية، وعصابات البعث، في التخطيط والتمويل والترويج وفي تنفيذ انقلاب شباط بكل وجوهه وسبله الدموية.
أما لماذا يقوم عبد الناصر بأداء هذا الدور المعيب؟
فالجواب برأيي يتعلق بالنظرية الناصرية التي كان عبد الناصر والآلة الإعلامية المصرية آنذاك يحاولون فرضها على الدول العربية. ولم تلق صدى لدى حكومة عبد الكريم قاسم، التي كانت في أغلبها وطنية، تطمح لبناء عراق قوي ومستقل في محيط تتنازعه التحديات والحروب، مما حدا بعبد الناصر لشن حمله اعلامية شعواء متوافقة مع محاولات عملية على الأرض لإسقاط حكومة الزعيم قاسم!
ومن هنا فإن الجوهر يكمن في نرجسية عبد الناصر الذي بدأ يتحسس جداً من (صعود) نجم عبد الكريم عربياً وعالمياً، ومن المنجزات التحررية التي حققتها ثورة العراق الوطنية، الأمر الذي أقضّ مضجع عبد الناصر، وسلب النوم من عينيه، فكان الانقلاب فرصته لإيقاف التجربة القاسمية الباهرة، وللثار من هذا (الزعيم)، الذي برز له من حيث لا يعلم، وقد يفقده حلمه الفرعوني ..
ألم أقل لكم إن قطار البعث كان (مصريكاني)؟!