بقلم : فالح حسون الدراجي ..
لا أعرف لماذا تحضر أمامي (سمفونية المقابر الجماعية) التي أداها الملا باسم الكربلائي، كلما تحضر انتفاضة
آذار – شعبان – المجيدة، رغم أن المسافة الزمنية التي تبعد بينهما تتجاوز الإثنتي عشرة سنة؟
أعتقد إن لم أكن جازماً، أن هذا الهاجس الذي يتكرر عندي في هذا التوقيت كل عام، يعود سببه لعلمي أن أغلب ضحايا المقابر الجماعية، هم من شهداء انتفاضة آذار – شعبان- تلك الانتفاضة التي هزت اركان نظام الطاغية صدام حسين هزاً عنيفا، وجعلته يحزم حقائبه استعداداً للهروب من البلاد، لولا موقف الولايات المتحدة المتغير في الساعة الخامسة والعشرين من ذلك اليوم السريالي المجنون، الذي سمحت فيه لصدام باستخدام الطائرات المروحية، وضرب المنتفضين بالصواريخ!
وهكذا قُصفت الانتفاضة وأبيد المنتفضون الذين كان اغلبهم من الشباب الغر ، الذين روت دماؤهم الطاهرة أرض العراق من (جنوبه) حتى شماله ..
لكن هذه الدماء الزكية لم تذهب سدى، فقد أمدت قناديل التوق الى الحرية بزيت الثورة، لتقضّ مضاجع الطغاة، وتجعل ليلهم كابوساً طويلاً لم ينته إلا عند رفع غطاء تلك الحفرة التاريخية، ونداءات الجنود الأمريكيين وهم يخرجون (البطل القومي) مرعوباً منها، في مشهد رآه العالم من شرقه لغربه .
إن العلاقة بين الانتفاضة و(سمفونية المقابر) التي أداها الصوت المقتدر باسم الكربلائي، وأخرجها الدكتور علاء يحيى فائق، والتي تشرفتُ بكتابتها، وقد ساعدنا في إنجازها وإذاعتها الزملاء الأعزاء حميد الياسري – ابن أخ الراحل شمران الياسري- وعودة التميمي، وحيدر الركابي، والمذيعة ايمان حسين،هي علاقة وشيجة، عمدت بالدم الطهور، وهل هناك علاقة أوثق من علاقة الدم بثورة الاحرار؟ لذلك، سأقصّ اليوم قصة (سمفونية المقابر الجماعية) من طقطق الى افتتاحية (جريدة الحقيقة) !
وهي قصة كنت قصصتها في حواري مع الزميل طارق الحارس، والتي ستنشر خلال هذه الأيام في مجلة (الفارس) التي يشرف عليها الزميل جعفر العلوچي : بعد سقوط نظام صدام مباشرة، وبعد اكتشاف المقابر الجماعية وعرض مأساتها عبر القنوات الفضائية العربية والعالمية، كنت وقتها مع مجموعة من الزملاء في دولة الكويت، نعد ونقدم البرامج الاذاعية الجديدة، من أحد أستوديوهاتها، لنبثها من اذاعة خاصة في أم قصر، استعداداً لاطلاق مشروعنا الجديد: (شبكة الإعلام العراقي).. وفجأة، وأنا اتابع احدى الشاشات العربية، انتبهت لتوافد الناس على احدى المقابر الجماعية في العراق، وهم يبحثون عن ضحاياهم فيها، حيث يتعالى صراخ الأمهات، ونحيب الآباء، وعويل الأبناء يدمي القلب ويذبح الروح، ومن بين هذا الركام السريالي، لمحت في المقبرة من بعيد زوجة اخي خيون (أم سلام)، وهي تحمل بيديها جمجمة منخورة، وما أن اقتربت من الشاشة، حتى صرخت كالملدوغ : أخي خيون، انها جمجمة رأس أخي.. وانخرطت في نوبة بكاء هستيرية، اختلط فيها الدمع بالنواح.. والصراخ بالشتائم، ولم أهدأ، الا بعد أن (شبعت بواچي)، لقد حدث لي ذلك رغم أني أعرف، ومتأكد من أن أخي أبا سلام قد استشهد قبل عشرين عاماً، وأن الأوباش لم يسلموا لنا جثته بعد إعدامه، إنما أعطونا فقط (شهادة وفاة مزوّرة) مختومة بختم مستشفى الرشيد العسكري!! وكم كان الموقف محرجاً لي حين اتصلت بأهلي بعد مشهد المرأة التي تحمل بيدها الجمجمة، وهم يخبرونني بأنهم لم يعثروا على رفاة أخي، كما أن المرأة التي رأيتها عبر الشاشة، لم تكن زوجة أخي! فشعرت بشيء غريب، لا أستطيع وصفه الآن حتماً، فهو خليط من ندم، وفشل، واحباط وألم واحساس عالٍ بالفجيعة والمرارة .. في تلك اللحظة أدركت أن كل هؤلاء الضحايا، اخوتي فعلاً ، وأن هذه الجماجم المثقوبة، والمنتشرة على أديم هذه المقبرة، هي جماجم اخوتي بلا استثناء وأولئك النساء المتشحات بالسواد والفجيعة كلهنَّ أم سلام.. في تلك اللحظة، وفي حالة اللاوعي تماماً، انسلّت روحي مني الى احدى الغرف الفارغة في المبنى الكويتي، لأتمدد على الأرض، واضعاً أمامي مجموعة من الأوراق، وقلما،وعلبة سجائر، وعلبة ثقاب، لم أستخدم منها غير عود واحد، اذ رحتُ بعده (أورِّث السيجارة من الأخرى)! وبعد ساعتين من الكتابة المتواصلة، والمتدفقة بالدمع، خرجت من الغرفة منهكاً، مرهقاً، كأنني أخرج من تحت أنقاض زلزال، حاملاً بيدي اوراقاً فيها قصيدة ملحمية تنزف دماً ودمعاً، لحظتها أدركت أني كتبت شيئاً ذا جدوى !!
وما أن بدأت أقرأ للزملاء ماكتبته، حتى بدأ البعض بالبكاء، وخاصة النساء، اذ كانت الزميلة المذيعة ايمان حسين أولى الباكيات ثم تلتها الزميلة المخرجة مفيدة السلمان، وعشتار التميمي، بعدها بدأ نشيج الرجال يتعالى ويتصاعد نحيبهم ايضاً، لقد كان البكاء مراً، وقوياً، فقد كان لكل منهم قصة دامية مع نظام صدام، وفي بيت كل واحد منهم ضحية من ضحايا المقابر الجماعية ، لذلك، كان هَمّ القصيدة هَماً جماعياً مشتركاً..
وحين انتهيت من قراءة النص، استرحت تماماً، وشعرت بأني أفرغت كل أحزاني، وتخلصت من كل أثقالي مرَّة واحدة ! لكن السؤال الذي اقتحمنا جميعاً، هو كيف سننفذ هذه القصيدة (الملحمة)؟.. وهنا راح الزملاء يفكرون بما علينا عمله، فقدحت الفكرة برأس الدكتور علاء فائق باعتباره مخرجاً مسرحياً، وصاح: وجدتها !
قلت : كيف؟
قال: أن نفكك القصيدة ونحولها من نص شعري، الى برنامج اذاعي حواري، يشترك فيه أكثر من صوت ويتداخل أكثر من شخص، على أن ترتل، أو تغنى الأبيات الشعرية ترتيلاً أحادياً، أي بدون آلات موسيقية! فوافقت على هذه الفكرة مباشرة، بل وفرحت بها، ثم وضعت عنواناً:(سمفونية المقابر).
أما كيف تم اختيار باسم الكربلائي لأداء القصيدة وكيف تم الاتفاق معه؟
فهذه حكاية، لعبت فيها الصدفة دوراً كبيراً.. وقبل ذلك اعترف أن الفضل في اختياره يعود للدكتور علاء فائق، اذ كنت قد رشحت (بيني وبين نفسي) الفنان الكبير كوكب حمزة لتلحين واداء بعض المقاطع منها، ليس لأن كوكب حمزة ملحن كبير، وذو ذهنية، ورؤية لحنية متقدمة فحسب، بل ولأن في صوته شجناً يتوفر على طاقة هائلة من الحزن الجنوبي، والوجع العراقي، فضلاً عن أنه موجود وقتها في الكويت، لكن المخرج علاء فائق كان يفكر بشيء آخر تماماً، إذ وضع في باله اسم الملا باسم الكربلائي دون أن أدري، إذ لم اكن أعرف القارئ الكربلائي من قبل.. وبينما كنت مع الدكتور علاء في استوديو النظائر الكويتي، نسجل حلقة من أحد برامجنا، سأل علاء أحد العاملين السوريين عن باسم الكربلائي، مستفسراً عن الوسيلة التي تمكننا من الاتصال به، فما كان من ذلك العامل، الا ان يبتسم ويقول: هذا هو باسم الكربلائي أمامكم!! وهكذا لعبت الصدفة دورها في الموضوع، وما أن طرحنا عليه فكرتنا حتى فرح بها وتفاعل معها جداً، وللحق فأنه لم يضع أي شرط أو طلب امامنا سوى أن يقرأ النص لاغير، وحين تسلَّم النص، وقرأه، اتصل بنا ليلاً معلناً موافقته، واعجابه، وهكذا بدأنا التسجيل في استوديو النظائر، وظهرت سمفونية المقابر للناس، عبر اشرطة صوتية انتشرت بسرعة في العراق ، كما بثت لازمتها فقط التي تبدأ بـ (وين تروح ياظالم من كل هذه المظالم) أثناء محاكمة صدام، لصعوبة عرضها كاملة، لا سيما وأنّ وقتها يستغرق خمساً واربعين دقيقة ..