بقلم: كمال فتاح حيدر ..
قبل أن أتصفح معكم قاموس لغة الشوارب، وقبل الخوض في تضاريسها وتموجاتها، لابد لي من التنويه إلى اختلاف معاييرها، وتغيرها كثيراً هذه الأيام عند معظم السياسيين، وبخاصة عند أولئك الذين تبدلت نظرتهم إليها، ولم تعد لها أي قيمة عندهم. .
تعد حلاقة الشوارب عيباً كبيراً، وأمراً مخزياً في عموم بلاد الشرق، التي قلما نجد فيها رجلاً حليق الشارب، ولو زرت مصر وبلاد الشام لوجدت الكثير من الرجال المغرمين بإطلاق شواربهم الكثيفة، للتعبير عن قوتهم وشجاعتهم وبسالتهم، وسجل بعضهم أرقاماً قياسية بطول شواربهم، التي يمكن أن تقف عليها أسراب طيور السنونو من دون أن يختل توازنها. .
ولسلاطين الدولة العثمانية رحلة طويلة في الجغرافية السياسية للشوارب، وكانت شوارب السلطان هي المعيار المعتمد في رسم وتحديد التغيرات المستحدثة في شكل وطول شوارب أبناء الإمبراطورية العثمانية، وكان سلم الترقيات لمراتب قادة الجيش الانكشاري يتماشى مع نمو الشارب من حيث الطول والكثافة، ومن حيث الالتواء والتعقرب، فالشوارب عندهم لها قوالب وأوزان، لكن تلك المعايير ذهبت مع الريح بعد إنهيار الباب العالي في الأستانة، وقدوم مصطفى كمال أتاتورك الذي أصدر فرماناً عسكرياً ألغى بموجبه كل تضاريس الشوارب، فصارت من ضمن الممنوعات في المؤسسة العسكرية التركية وحتى يومنا هذا، ثم ظهر علينا الزعيم النازي (هتلر) بشنبه المربع الصغير الملتصق فوق شفته العليا، وكانت شواربه طبق الأصل من شارب الفنان شارلي شابلن، ومن أشهر الشوارب شارب الرئيس الروسي جوزيف ستالين، وشارب الفنان السريالي سلفادور دالي، وهناك أيضا شارب الملك فؤاد، وشارب سعد زغلول. أما إمبراطور الشوارب من دون منازع فهو العم (فتحي أحمد محمود) من مصر، الملقب بـ (فتحي شنب)، والذي حصل على لقب أضخم وأظرف وأطول شارب، ودخل موسوعة غينيز للأرقام القياسية، وصار عمدة الشوارب. ومع ذلك تبقى شوارب العالم الفيزياوي الكبير ألبرت اينشتاين هي الأذكى والأروع والأكثر جاذبية. .
للشارب في الثقافة الشرقية مكانة خاصة، وقدسية اجتماعية، ودلالات كثيرة تفوق دور الشارب في المظهر والأناقة. فالشارب الشرقي يرمز للفتوة والشهامة والشجاعة والمرْجلة والمهابة، وأحيانا يرمز إلى الولاء الحزبي أو الانتماء إلى الخلايا السرية الحاكمة، فقد دأب المتحزبون في البلاد العربية منذ زمن بعيد وحتى يومنا هذا على التبختر بشواربهم القنفذية، وكانوا يستخدمونها سلاحاً يغيضون به خصومهم، ويتكبرون به على الناس في الرايحة والجاية، وهذه إحدى السلوكيات الغبية، والتصرفات المدانة. .
لا زالت الدول العربية تعد الشوارب من أبرز رموز قوة الشخصية المرتبطة بكرامة الإنسان ورجولته، وعلى النقيض فان إزالتها تعني الإهانة، واحيانا تفسر بنقص في الرجولة. لقد تناول الفقهاء العرب هذا الموضوع، وكتبوا عن الشوارب المؤلفات الكثيرة، نذكر منها: (بلوغ المآرب في قص الشارب) للسيوطي، و(التفتيش في حلق الريش) للشهرستاني، و(اعتماد الراغب في حلق الشارب) لابن طولون، و(مسألة قص الشارب) للعراقي، و(أحكام المذاهب في طول اللحى والشوارب) للنازلي. أما بالنسبة لموقف الدين من الشوارب، فالإسلام دين الحكمة والعقل والمنطق، وليس دين الشوارب واللحى، وللفقهاء رأيهم في موضوع الشارب واللحية وحكمهما، فمنهم من رأى تحريم حلق اللحية، وهناك من رأى كراهة حلق اللحية، وأيضا هناك رأي وهو إعفاء اللحية، مستعينين بالأحاديث المروية وإجماع الصحابة، وجعلت اللحية في عصرنا من الحلاقة مهنة وفناً، ولكن بعضهم يريدنا أن نجعل للحية قدسية خاصة. ومن المفيد أن نستشهد بهذا البيت من قصيدة طويلة للمتنبي يهجو فيها كافور الإخشيدي: أغَايَةُ الدّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ وكأنه يقول للناس: هل غاية الدين أن تحفوا شواربكم فقط، وتتظاهرون أمام الناس بالتدين السطحي ؟، بينما لا تلتزمون بسائر الدين وتعاليمه السماوية ؟. .
ختاماً نقول ليس كل الشوارب سواء، وليس كل من فتل شاربه غاضبا لانتهاك الحقوق الإنسانية، فالماجنون والفاسدون والفاسقون وسارقو قوت الشعوب باتوا يفتلونها اليوم في قصورهم ومنتجعاتهم الفارهة للماجنات والداعرات، فمتى تُفتل الشوارب غضباً لانتهاك حقوق البشر ؟، ومتى تُفتل الشوارب انتصارا للحق ؟. ومتى تُفتل الشوارب دفاعا عن أرواح المهاجرين الذين تناثرت جثثهم فوق السواحل الأوروبية ؟. ومتى تُفتل الشوارب للذود عن نساء وشيوخ غزة الذين قطعت أحشاءهم خناجر الحصار الظالم ؟. وكيف تُفتل الشوارب المنزوعة بالليزر ؟. .