بقلم : فالح حسون الدراجي ..
من السهل أن تصبح شيوعياً، إذ يكفي أن تكون مؤمناً بالفكر الشيوعي، ومستعداً للمضي في طريق النضال الوطني والطبقي، وذا رصيد أخلاقي طيب، وكفى!
لكن، ثمة مواصفات يجب توفرها، وإلا يفقد المرء أهليته واستحقاقه لنيل صفة ( الشيوعي)، ومن هذه المواصفات: الصدق والأمانة، والإخلاص والتضحية من أجل الشعب والوطن والشجاعة، وحب الناس.
لذلك، تجد الشيوعي في مقدمة قوافل الشجعان، والمضحين، والمخلصين الأوفياء للشعب والوطن.
أحدثكم اليوم عن واحد من هؤلاء الشيوعيين المخلصين، الطيبين، المحبين للناس حباً حقيقياً خالصاً، والذين تسعد بلقائهم، وتحزن على فراقهم. إنه صديقي كاظم الحلاق (أبو ثامر)، صاحب محل حلاقة (الليالي) الواقع في مدينة الثورة، قطاع 40، والذي لا يبعد عن سوق مريدي سوى 100 متر لا اكثر..
وللحق، فأن شخصية أبي ثامر، تستحق الاهتمام، بل والدراسة أيضاً، فهو رغم أحزانه، وظروفه الصعبة، لا تقابله إلا والتفاؤل يشع من عينيه، والابتسامة على محياه، حتى تتخيل أن هذا الرجل قد خلق من طينة الأمل والتفاؤل، لا غيرها !
قد يبتهج محدثه وهو لا يعرف عن الحزن الذي يختفي خلف شعاع الفرح المنبثق من عينَي أبي ثامر.
كاظم الحلاق.. ذلك الرجل البسيط ..الشعبي، الكادح، لكنه الواعي طبقياً ووطنياً واجتماعياً، والمدرك جداً لأهمية الفرح والضحك في حياة البؤساء، وفي انعاش النفوس المتعبة، لا سيما وأن الناس كانوا يعيشون في بيئة وظروف معيشية وحياتية قاسية، تنعدم فيها مبررات الفرح، وتتقلص حد التلاشي اسباب البهجة والأمل !
ولأن كاظم، كائن عذب، يكتنز في قلبه حباً عجيباً للناس، وميلاً لمساعدة الأشخاص الذين يبحثون عن مساعدة، كما يختزن في روحه طاقة فطرية فريدة، للدعابة والفرح والمرح، والقدرة على الترفيه، من خلال أحاديثه الحلوة وتعليقاته المهذبة الذكية، والتقاطاته المعبرة الكوميدية، التي تهدف الى إضحاك، واسعاد الأفئدة الحزينة الموجوعة عبر مواقف ونوادر قد يؤلفها بنفسه لهذا الغرض، أو ينقلها عن الآخرين.. وأنا على ثقة أنك تستطيع الجلوس في محل (حلاقة الليالي) وتستمع لأبي ثامر عشرين ساعة دون أن تشعر بجوع أو عطش، أو كلل وملل، وكأن الرجل سحرك بروعته، وحلاوة دمه، وخفة ظله، وشفيعه في هذا (السحر) يكمن في صدقه واخلاصه للناس، وسيجبرك بحلاوة روحه ولسانه، على نسيان الزمان والمكان، فتظل مشدوداً الى الكرسي الذي تجلس عليه، رافضاً مغادرة محل الحلاقة، واحاديث كاظم اللذيذة !
لقد تعرفت على أبي ثامر، في نهاية عام ١٩٧٢، عن طريق الرفيق، والصديق، والزميل العزيز غالي الخزعلي.. ومازلت أتذكر اليوم الذي سألني فيه صديقي الخزعلي، قائلاً : – فالح انت وين تزين ؟!فأخبرته عن الحلاق الذي أحلق شعري عنده.. فقال: لماذا لا تزين عند كاظم، فهو حلاق جيد ومحله لا يبعد عن بيتكم أكثر من (دقيقتين مشي).. ثم اقترب مني، وقال هامساً :
وكاظم (حلاق الحزب)، وأغلبنا يحلق شعره عنده!
فضحكت، وقلت له: أنت لست مقتدراً في الكتابة والنقد والتأليف فحسب، إنما في فن الدعاية ايضاً ..
فضحكنا، وبعد اسبوعين وجدت نفسي في محل (حلاقة الليالي)، واقفاً قبالة كاظم الحلاق!
لم يكن ثمة زبائن كثيرون عنده آنذاك، رغم اننا كنا في يوم الجمعة، إذ يبدو أن (رزق) أبي ثامر شحيح، وربما صغر محله وموقعه المحشور بين محلات صاغة الذهب، فضلاً عن (ستايل) كاظم، الذي هو أقرب للحلاقة التقليدية أو الكلاسيكية، كانا السبب في محدودية زبائنه.. لكن الحال تغير كثيراً بعد ذلك، خصوصاً بعد أن أجرى تغييرات واصلاحات عدة على ديكورات المحل في منتصف السبعينيات. وللحق فقد كان كاظم ماهراً في صنعة الحلاقة، فضلاً عن شجاعته وصراحته، وطيبة قلبه، ويمتاز أبو ثامر كذلك بحسن الاخلاق والسمعة، فقد كان يرفض مثلاً، أن يعلق أو يضع في محله الصور المخدشة للذوق، والمجلات الرخيصة، مثل بقية الحلاقين، مستعيضاً عنها بصور الرموز المؤثرة في التاريخ، وبالمجلات التقدمية، كمجلة الهدف والحرية الفلسطينيتين، ومجلة العالم، ومجلة الثقافة الجديدة، وصحف طريق الشعب والفكر الجديد – في فترة الجبهة الوطنية – وغيرها .. ومن المواقف المضحكة التي يرويها أبو ثامر لزبائنه، هذه القصة، حيث يقول: جاءني يوماً احد أقاربي، وهو (بعثي)، وكان الرجل يعاني من هزال وضعف، وفقر دم، حتى تتخيله مصاباً بالتدرن الرئوي لشدة اصفرار وجهه. وقد أراد هذا (البعثي) أن يحكي لي عن تبرعه بالدم للفدائيين الفلسطينيين، ضمن حملة التبرع التي قام بها حزب البعث بين أعضائه.. وقبل أن يتحدث ويتبجح، قلت له: “خويه انت وينك أوين التبرع.. إذا تريد الحق، لازم اخوتنا الفدائيين يتبرعون لك، مو انت تتبرع لهم”!
بهذه المقدمة – يقول كاظم – قطعت عليه أي تبجح، فضحك البعثي، وقال: تريد الصدگ أبو ثامر.. أول ما خذوا مني بطل دم.. طحت وفقدت الوعي.. رجعولي البطل .. وماكو ..انطوني بطل ثاني ونفس الشي ظليت على نومتي.. من دارولي بطل دم ثالث.. صحيت، وگمت على حيلي، وصحت: احنه ممنونين وبخدمة القضية وخدمة اخوتنا الفدائيين !
فالتفت لي مسؤولي وگال
” إنت تنچب، وتسكت،
اليوم طيحت حظ القضية ونعلت أبو الفدائيين.. روح لاهلك ولّي، ومرة ثانية اذا إجيت ويه المتبرعين بالدم أنعل شيب أبو الخلفوك !!
كما أذكر عن أبي ثامر، عندما عدت للعراق بعد السقوط، التقيت به عند ساحة الفردوس، بمناسبة عيد العمال، وكان يقف معه الراحل اسماعيل البهادلي – أبو علي – وما أن رآني حتى قفز نحوي، وهو يعانقني ويحتضنني، وبعد التحية والسلام، طلب مني رقم تلفوني، فاعطيته رقمي في امريكا، وقلت له: لا تنس فرق الوقت بيننا يا أبا ثامر ؟
فقال: كم هو الفرق؟
قلت: العراق يتقدم على امريكا بعشر ساعات !
وهنا صاح أبو ثامر: الف الحمد لله والشكر، العراق متقدم على امريكا، ولو بس بالوقت هم ميخالف!
ختاماً: في ١٦ تموز ١٩٧٣ دعاني الى بيته، لحضور حفل (خاص) بمناسبة ختان ولده ثامر.. وحين حضرت، وجدت كل ما أحب من الشعراء والرفاق والاصدقاء، وكان بينهم الكبار: كاظم الكاطع وجمعة الحلفي وكريم العراقي وغالي الخزعلي والكاتب فاضل الربيعي، واكثر من خمسين مدعواً.
وقد (خسر) كاظم على هذا الحفل مبلغاً ليس بقليل، على امل أن ندفع له (الواجب)، ويعوض به الخسارة.. واذكر أني كنت عريف ذلك الحفل، وما أن قدمت الشاعر كريم العراقي حتى صاح أحدهم
افتحوا التلفزيون بسرعة!!
وحين فتحنا التلفزيون، ظهر على الشاشة عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي، مع احمد حسن البكر وهما يوقعان اتفاق الجبهة الوطنية.. ذلك الاتفاق الذي كنا ننتظره (آنذاك).. فما كان منا ونحن نرى ذلك إلا ونهرع الى الشارع تاركين كاظم وحفله، منطلقين في تظاهرة كبيرة، تهتف بحياة الحزب والشعب ..
وما أن رآنا كاظم نغادر بيته، حتى صاح خلفنا: وين الواجب يمعودين.. خايبين منين أطلع فلوس الحفل!! ثم التفت نحو شاشة التلفزيون – وقد كان عزيز محمد يلقي كلمة- فقال له: ليش أبو سعود ليش.. يعني عرسك ما جبته إلا ويه طهوري ؟!