بقلم : فالح حسون الدراجي ..
كان بيتنا رغم العوز، مترعاً بطيبة الجنوبيين، ونقاء فقراء الصرائف. وكانت المودة المشاعة في بيتنا مثل رغيف خبزنا الذي لانشبع منه.
وكانت (نوافذنا) عند ستينيات القرن الماضي، مهيأة لاستقبال النسائم الشيوعية، وكانت سماؤنا عطشى لأشعة ضوء تأتي من قمر “الزعيم” !فالوالد ” زاير حسون” كان من عشاق عبد الكريم قاسم، وظل مخلصاً وفياً لعطره حتى رحيله قبل أربعة عشر عاماً .. أما الوالدة “ام خيون ” فقد كانت قد تعرفت على قيم ومبادئ الحزب الشيوعي من خلال علاقتها بجارتنا في منطقة صرائف كمب الصليخ، السيدة “جوادة العطية” شقيقة الكادر الشيوعي الشهيد جواد العطية، والتي ستتزوج لاحقاً من القائد الشيوعي جاسم الحلوائي “أبو شروق” وقد كانت العلاقة بين أمي والسيدة ” أم شروق” علاقة وثيقة، وإن لم تصل الى مستوى علاقة تنظيمية حزبية، لكن الوالدة رحمها الله استفادت كثيراً من علاقتها بهذه الشابة الشيوعية المثقفة والرائعة، خاصة وأن أمي كانت تجيد القراءة فتعلمت منها اشياء عظيمة.
أما شقيقي خيون، فقد كان منشغلاً بالعمل، بعد أن ترك الدراسة بشكل مبكر، مضحياً بمستقبله من أجل مساعدة الوالد على إعالة العائلة، لكن في المقابل، كان خيون مشروع مناضل شيوعي كبير توفرت فيه وله كل مستلزمات المناضل الشيوعي الكادح والعنيد .. وقد تحققت هذه المستلزمات النموذجية من خلال صموده البطولي في زنزانات البعث ليتوجها بنيله الشهادة في مطلع الثمانينيات.
أما أنا فقد كنت قد تعرفت على الفكر الشيوعي من خلال ابن عمي الكبير ، المعلم الشيوعي غازي حسين الدراجي، الذي كان يتيح لي بشكل متعمد أو غير متعمد، الإطلاع على كتبه (الشيوعية) كلما زرتهم في دارهم بمنطقة الخندق في محافظة البصرة.
وفي نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، كانت مدرستي (متوسطة المصطفى، ومن ثم ثانوية قتيبة) في مدينة الثورة، مزدحمتين بالطلبة الشيوعيين، وكان (جكليت وتهاني) اتحاد الطلبة، وشعارات ومنشورات الحزب الشيوعي تنتقل بين ايادينا في جميع الأعياد والمناسبات الشيوعية، لاسيما وأن طلاباً شيوعيين معنا في كلتا المدرستين اللتين درست فيهما، كانوا اصدقاء قريبين جداً لي، مثل الشاعر كريم العراقي والطالب الشيوعي النشيط محمد عبد الكريم، والقاص عبد جعفر الساعدي وغيرهم من الزملاء.
وعدا المدرسة، فقد كان جل زملائي وأصحابي من الشيوعيين ايضاً، سواء حين كنت العب الكرة في فريق السكك، أو حين انخرطت في لعبة الشعر.
ولعل العامل الأهم الذي ساهم في تكويني السياسي، وكذلك شقيقي الشهيد البطل خيون، وجعلنا نكون شيوعيين بالفطرة، هو الحس الطبقي العالي الذي كنا نتمتع به منذ طفولتنا، فضلاً عن المناخ الوطني المتوفر لنا، سواء أكان في البيت أو في البيئة المحيطة بنا.
ورغم كل الظروف النموذجية لم أنتسب لتنظيم الحزب الشيوعي حين كنت طالباً في متوسطة المصطفى، رغم احساسي بوجود هذا التنظيم في مدرستنا، ورغم صداقتي العميقة والوثيقة لبعض المنتمين لهذ التنظيم.
ولا اعرف هل كان التقصير بي في موضوعة عدم الإنتماء آنذاك، أم في زملائي واصدقائي الطلبة الشيوعيين؟
هو سؤال قد يبدو مضحكاً بعد أكثر من خمسين عاماً، لكنه بالتأكيد كان موجعاً في تلك السنين الشبابية، حين كنت منغمراً في بحر الإندفاع الشعري والسياسي الشيوعي، وفي المواجهة الحادة مع أزلام البعث، الذين بدؤوا وقتها بالتوسع والإنتشار في مدينة الثورة، لاسيما بعد ان تركزت اقدامهم في السلطة، وقد شعرت وقتها فعلاً بحاجة ماسة الى الإنتماء للحزب الشيوعي، ربما لأن الطريق طويل وقد تضيع فيه الاقدام حين يكون الطريق بلا مرشد ولا أظن ان هناك مرشداً أشد وثوقاً من التنظيم الشيوعي، رغم أني اعتقد ان الشعر والتنظيم الحزبي، ضرتان لا تنسجمان في كيان واحد، ومن جهة اخرى فقد وجدت ان بيت “ابو خيون” الوطني يستحق ان يكون فيه فرد او أكثر، شيوعياً ملتزماً رسمياً، لذلك فكرت لأول مرة بضرورة الإنخراط في العمل التنظيمي، وكان يجب أن يحصل هذا الأمر قبل سنوات، رغم ان عمري الصغير لم يكن يسمح لي بالإنتساب للحزب آنذاك.
ولكن أين هو التنظيم، وهل ستسمح لي التقاليد الشيوعية أن أطلب من أحد- مهما كانت علاقتي به حميمة- أن يرشح اسمي للتنظيم الحزبي، ثم من يصدق وقتها أني غير منتمٍ، وانا الذي يقاتل بكل الوسائل دفاعاً عن اسم الحزب الشيوعي، خاصة وأن الرفيق الشيوعي لم يكن آنذاك يعرف بانتماء صديقه الشيوعي إلا إذا كانا يعملان في خلية أو لجنة تنظيمية واحدة، وهو أمر ليس سهل الحصول في حينه!.
لكن أمسية من أماسي الصيف التي مر عليها واحد وخمسون عاماً، فعلت ما كنت انتظره، حين دعانا -أنا والشاعر الصديق كريم العراقي – كادر شيوعي راق، يملك شخصية رائعة، اسمه جمعة حطاب (أبو احسان)، فذهبنا للدعوة، وكان معنا العامل الشيوعي المعروف في مدينة الثورة آنذاك، وأحد المعتادين على تعذيب زنزانات الأمن العامة، الصديق عبد الحسين حافظ(أبو نرجس)، فكانت ليلة رائعة قضيناها في بيت أبو احسان، وقبل ان نغادر بيته الكريم، مسكني ابو احسان من يدي، وسحبني بلطف من الجماعة، وفاجأني بسؤال لا يمكن ان يخطر على بال أحد:
- فالح انت شيوعي ؟
فضحكت، وقلت:
- طبعاً، وهل تشك بذلك؟
فقال معتذراً:
- لا العفو، بس أقصد عندك تنظيم؟
ارتبكت، فهذه أول مرة يوجه لي مثل هذا السؤال الجريء، لكني تمكنت من أن أقول له:
- كلا، ليس لدي تنظيم !
قال متعجباً: لماذا ؟
قلت له: أكره الإلتزام، والضغوط !
ضحك جمعة وقاطعني قائلاً:
- لا يفالح، أنت ابن الحزب، ومن المستغرب ان لاتكون فيه، أو لا تعمل في تنظيماته !
وفي اليوم الثاني قدم لي جمعة طلباً، وبعد أقل من شهر وجدت نفسي مجتمعاً في خلية من خلايا الشبيبة العمالية، يقودها العامل في الزيوت النباتية “موحي ابو رجاء”، ضمت كلا من الراحل محسن بنيان – شقيق الأصدقاء حسن ورسن وأياد وفؤاد بنيان،كما ضمت الخلية عاملاً في السكك -من أهالي الوشاش – اسمه حسين أبو علياء، وضمت ايضاً الشهيد البطل خالد حمادي ( أبو أحمد)، اضافة الى شخص آخر لا أتذكر اسمه الان.
وبعد سنة من العمل في صفوف الشبيبة العمالية، انتقلت للعمل في صفوف الحزب، ثم اصبحت عضواً في لجنة قاعدية، وكان مسؤولي فيها القائد والوزير الشيوعي البارز رحيم الشيخ علي -حيدر فيلي -ثم انتقلت للعمل في التنظيم (الخاص) بعد ان التحقت بالخدمة العسكرية.. الخ !
احدى وخمسون سنة مضت، وأنا معتاد على أن أضيء شمعة كل ليلة 31 آذار من كل عام، شمعة يذهب ضوؤها الناعم صوب حروف اسم
أبي احسان، ومع ضوئها يرتل قلبي له قصيدة حب وشكر وامتنان كبير، كيف لا وهو الذي قادني بيديه الكريمتين نحو طريق النور والحقيقة.