بقلم : فالح حسون الدراجي ..
قبل يومين ونحن نستعد لتهيئة عدد من الصفحات الخاصة بمناسبة مرور عام على رحيل الشاعر الكبير مظفر النواب، طرح عليّ أحد الزملاء، عدداً من الاسئلة ( الإشكالية)، من بينها: موقع النواب في خارطة الشعر العربي تاريخياً، والفرق بينه وبين الشاعر الجواهري، وهل كان النواب شاعراً ثورياً (عضوياً) إذا صح التعبير، وغير ذلك من الاسئلة الملغومة التي لاتحتاج الى شاعر أو ناقد، ليجيب عنها اجابات أدبية أو صحفية، بقدر ماتحتاج الى خبير في رفع الألغام ليفككها، ويتجنب الوقوع في المحظور، وأي محظور يكون، حين يتعلق الأمر بشاعر جماهيري وتاريخي يملك رصيد حب هائل مثل مظفر النواب؟!
قلت لزميلي: دعني أولاً أجيبك عن ثورية الشاعر النواب ..
وأقول: انا كشاعر شعبي عراقي تقدمي، اعتبر نفسي محظوظاً لأني عشت في زمن عاشه النواب، وأشعر بالفخر والزهو في أن تجمعني بعض المشتركات مع هذا الشاعر العظيم.. والنواب الذي مارس ثوريته مبكراً، وهو في العشرين من عمره تقريباً- قام بإسقاط (نظام) الشعر الشعبي البائد، قبل أن يباشر نضاله وثوريته باسقاط أنظمة الحكم العربية المستبدة العميلة والخائنة، أي انه اطلق رصاص الثورة من بندقيته الشعرية، قبل أن يطلقه من بندقيته السياسية.. ولولا (ثورة) النواب الشعرية المبكرة، لبقيت القصيدة الشعبية على حالها البائس، أي بتخلفها الفني، وأميتها، وسذاجتها، التي وصلت حد (الفطارية) ! بدليل أن ثقافة وفلسفة جمعية الشعراء الشعبيين في العراق قبل ثورة النواب، تلخصت في بيت شعر رفعته إدارة الجمعية شعاراً ودستوراً لها، وهذا البيت يقول: (هاي جمعيتك يشاعر عينها .. ولا تشخبط بيدك احياطينها) !!
حتى جاء مظفر النواب، الذي لم يشخبط على حياطين الشعر السائد فحسب، إنما هدم بناءه القديم المتهاوي بمعول الحداثة والجمال، وفتح الابواب أمام القصيدة الشعبية العراقية، لتنطلق في دروب الحرية، وتحلق في فضاءات الإبداع الانساني، وكان ديوان (للريل وحمد) الذي شرع مظفر بكتابته عام ١٩٥٦، وانتهى منه عام ١٩٥٨، بمثابة الدستور الجديد لجمهورية النواب الشعرية الديمقراطية.. ومن هنا يمكن لنا القول، إن النواب قد وضع اولى خطواته العملية في مشروعه الثوري الطويل، ليتنقل في ميادين النضال السياسي الوطني والقومي والاممي، بعد ان أطمأن تماماً على صلابة النظام (الوطني التقدمي) للقصيدة الشعبية الجديدة، واستحالة عودته مرة ثانية الى (شخبطة الحياطين)!!
وليس سراً أكشفه لو قلت إني أحب جداً (الشاعر الشعبي) مظفر النواب، اكثر من حبي لمظفر (الفصيح)، وقد يعود ذلك لسبب نفسي يتعلق بي شخصياً، أو لأني أراه في القصيدة الشعبية شاعراً عراقياً عذباً، وبلبلاً صادحاً في بساتين الجمال والرقة والحب والعذوبة واللوعة والصدق والانتماء، ونسراً في سماء الثورة أيضاً، بينما أراه في قصائده الفصحى مواطناً عربياً مقهوراً، مستلباً، يصرخ ويشتم الحكام والسلطة والخونة والعملاء الذين باعوا عروس عروبتهم، وادخلوا كل زناة الليل إلى حجرتها، ووقفوا يسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها ..!
بينما يقول في ضفة الشعرية العامية بيتاً واحداً قد يساوي (فنياً) كل ماكتبه أبو عادل في الفصحى، مثل قوله :
(جفنك جنح فراشة غض، وحجارة جفني وماغمض)
فما هذه الروعة والترافة، وما هذا السحر المجنون؟
وعلى ذكر عامية النواب، أرسل لي الفنان التقدمي الكبير طالب غالي قصيدة (عودتني)، وهي ملحنة ومغناة، وقد سمعتها مرة وأخرى، وأعدت سماعها عشر مرات، فبكيت، بكيت على مظلومية النواب، وبكيت على مظلومية طالب غالي، وعلى نفسي، وعلى كل من سيموت مثلنا مظلوماً في الغربة دون ان يأتيه العيد يوماً بالناس الذين يتمنى أن (يعيّد) معهم، ولكن دون جدوى، إذ سنمضي كما مضى النواب وحيداً الى قبره.. يقول النواب في هذه القصيدة المؤلمة:
( عودتني .. عودتني انتظر وارسم على الايام موعد ..
عودتني العيد يعني الناس
وياهم اعيد …) الى آخر وجع القصيدة، وخمرة اللحن، وسحر الصوت !!
وطبعاً فإن رأيي المنحاز لشعرية مظفر العامية لا يلغي اعجابي الكبير بروائع قصائده الفصيحة ..
أذكر حين رحل الجواهري قبل ستة وعشرين عاماً، قال النقاد عند رحيله : “اليوم فقدت القصيدة العربية العصماء أباها.. ” .
ولما رحل النواب قبل عام، هاتفني أحد الفنانين العراقيين الكبار، معزياً، وهو يقول: ” اليوم تيتم الشعر العراقي”!
فقلت له: بل اليوم تيتمت الثورة ايضاً، فالنواب لم يكن شاعراً فحسب، إنما كان (ثورة) تمشي على قدمين.. ثورة أممية فذة..
قال لي: الم يكن أبو فرات شاعراً ثورياً أيضاً ؟
قلت : بلى .. كيف لا، وهو الذي تصدر وثبة كانون المجيدة، بقصيدته الشهيرة التي رثى بها أخاه جعفر أحد ابطال الوثبة : ” أتـعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ، بأنّ جراحَ الضحايـا فـم.. فمٌ ليسَ كالمُدّعي قولَةً، وليس كآخَـــرَ يَسترحِم”.. أو قصيدته الأخرى التي نظمها بحق الشهيد الخالد فهد بعد اعدامه مع رفيقيه البطلين بسيم والشبيبي، والقاها بصوت عالٍ امام عيون واسماع سلطة نوري السعيد في نقابة المحامين العراقيين عام 1951حيث مطلعها:
“سـلام على مثقــــل بالحديد .. ويشــمخ كالقائد الظافر ..
كـأن القيود على معصميــه ..
مفاتيح مستقبل زاهـــــر.
وهناك القصيدة الفذة التي نظمها الجواهري :
“نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي · حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ · نامي فإنْ لم تشبَعِي .· مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ .· نامي على زُبَدِ الوعود .· يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ”،
وغيرها من قصائده الثورية.. نعم فالجواهري الكبير الذي يعد من طبقة أفذاذ الشعر العربي في التاريخ كالمتنبي والبحتري وأبي تمام وامرئ القيس وأبي فراس الحمداني وغيرهم، هو شاعر ثوري دون شك، لكن النواب الذي ينتمي لفئة لوركا وناظم حكمت، وبابلو نيرودا، ورسول حمزانوف، وأراغون، وامثالهم، مختلف عن الجواهري ودرويش، فثمة فرق بين ان يدعو الشاعر الى الثورة، وبين أن يكون (الثورة ) نفسها !
والحقيقة أن النواب غيّر مفهوم القصيدة الثورية، بعد أن أخرجها من ترف الصالات المعطرة، والميكروفونات، والكتب، وخلع عنها بدلات السموكن الفرنسية ذات الياقة الحريرية اللامعة، وربطات العنق الملونة، والبسها بدلات الثورة، ويشاميغ الثوار، ومضى بها الى أعماق الأهوار، حيث يقاتل هناك (حمد) وأبو محيسن، وحسن الشموسي، وفعل ضمد وغيرهم من الثوار .. فكان أبو عادل قصيدة وبندقية وثورة في آن واحدة، وكان أسطورة وحقيقة أغرب من الخيال.. وإلاٌ اعطوني شاعراً غيره يهجر الثراء والقصور وحياة الترف، ويمضي الى حياة الفقر والزهد التي عاشها علي والحسين وابو ذر والسيد المسيح وجيفارا وغيرهم من رسل الحرية، وأقمار العدالة والمساواة؟ واعطوني شاعراً يحفر في السجن نفقاً ويهرب من تحته، ولكن الى أين؟ الى الثورة ليقاتل مرة اخرى في صفوفها، واعطوني شاعراً غير النواب، حكم عليه بالاعدام مرتين، ولم يرف له جفن، أو يعتزل الثورة، واعطوني شاعراً مثله، كان ملاحقاً من خلايا الاغتيالات البعثية في أي بلد يهرب اليه، من بينها محاولة اغتياله في اليونان عام ١٩٨١، ويتمكن من الهروب من القتلة واللجوء الى السفارة الليبية القريبة، مما دفع القذافي الى ارسال طائرة خاصة لنقله الى طرابلس، فكان ذلك الموقف سبباً في علاقة الصداقة بينهما، ثم يكتب للقتلة في اليوم الثاني (اولاد القحبة لست خجولاً حين اصارحكم بحقيقتكم، ان حظيرة خنزير اطهر من اطهركم)، واعطوني شاعراً يمرض مرضاً خطيراً، وفي ظل ظروف مالية عسيرة، فيرفض مكرمات الرؤساء والملوك بدفع تكاليف علاجه في المستشفيات، فأي كبرياء هذا مقابل انحناءات أقرانه ؟!
وأي شاعر غير النواب، حمل بندقيته وقاتل مع الثوار، ليس في أهوار العراق فحسب، بل حتى في نيكاراغوا، لولا أن القائد أورتيغا أعلن وقف اطلاق النار قبل سفر النواب بساعات، وقبلها كان مظفر مع ثوار ظفار، و ارتيريا وغيرها.. ألم أقل لكم إنه ثورة بكل معنى الثورة ؟