بقلم : فالح حسون الدراجي ..
دعونا نتحدث بصراحة حول كارثة الخامس من حزيران، وما لحق بالعرب من عار لن يمحى ابدا ..
ونعيد السؤال الذي يتكرر كل عام حول الأسباب الحقيقية لتلك الهزيمة، وما خلفته في الوجدان والضمير العربي من آثار سايكولوجية مدمرة؟ واسمحوا لي أن أقول بكل صدق، إن مرارة الفجيعة لم تغادر الأفواه العربية حتى هذه اللحظة، رغم مرور ست وخمسين سنة على هزيمتنا أمام الكيان الصهيوني، لأنها باختصار لم تكن هزيمة عسكرية مثل أية هزيمة مُني بها العرب عبر تاريخهم المزدحم بالهزائم والاحتلالات والكوارث، ولا هي معركة عابرة نخسرها، أو حرباً كأية حرب تنتهي بمنتصر ومهزوم، إنما كانت مفصلاً مهماً من مفاصل التاريخ العربي، وانعطافة خطيرة في مسار الجغرافية العربية.. حتى ان الكاتب والصحفي محمد حسنين هيكل حاول – بطلب من الرئيس جمال عبد الناصر – ان يرفع الروح المعنوية، ويستبدل كلمة (هزيمة) في الخطاب العربي، بكلمة أخرى تكون أخف وطأة من كلمة (هزيمة) الموجعة، فاستل هيكل قاموسه و(نحت) لنا كلمة (نكسة) بدلاً من هزيمة !
ولعل الموجع في الأمر ان ينتصر الجيش الاسرائيلي (اللملوم) ويدحر خمسة جيوش عربية نظامية مجتمعة، مسلحة تسليحاً جيداً، كالجيشين المصري والسوري اللذين قام الاتحاد السوفياتي، بتجهيزهما بأسلحة تفوق السلاح الاسرائيلي بعدة مرات، ويكفي قولاً أن قائد الجيش المصري (المشير) عبد الحكيم عامر الذي أمر جيشه بالانسحاب الارتجالي وغير المنظم من سيناء قد ترك خلفه في ارض المعركة اًسلحة ومعدات قدرت بعشرين مليار دولار – أيام كانت قيمة الدولار تعادل أضعاف قيمته الحالية- !
ولعل الأشد وجعاً ومرارة أن جنود وضباط الجيوش العربية الخمسة التي هزمت في حرب حزيران لم تتح لهم الفرصة العادلة لخوض حرب حقيقية يلتحمون فيها مع العدو التحاماً مباشراً، ويثبتون فيها قدراتهم العسكرية والذاتية، إنما كانت حرباً خاطفة وظالمة لم تدم سوى ستة أيام، أخذوا فيها على حين غرة، ليهيموا في صحراء سيناء، وهم يواجهون حر الصحراء اللاهب في الصيف، وحمم الطيران المعادي، الذي لم يمنحهم الفرصة لالتقاط انفاسهم، بعد خروج الطيران المصري من المعركة قبل نشوبها !
انا هنا لا أبرر، أو أدافع عن جيش مني بهزيمة ساحقة ومذلة، بقدر ما أريد إظهار الحقيقة – وإن كانت غير سارة – أمام هذا الجيل ، والأجيال اللاحقة، لاسيما وقد عايشت بنفسي مع أبناء جيلي ظروف هذه المأساة واطلعت شخصياً على عشرات المذكرات التي دونها قادة وزعماء شاركوا أو كانوا جزءاً فاعلاً من تلك الحرب، بما في ذلك كتب مذكرات قادة الجيش الاسرائيلي، مثل وزير الدفاع موشيه ديان ورئيسة الوزراء غولدا مائير، وغيرهما، فضلاً عن مذكرات أغلب القادة العسكريين و السياسيين العرب، الذين شاركوا في الحرب، أو اشتركوا في صناعة جحيمها الرهيب..
وقد يسألني سائل، من المسؤول عن عارها إذن؟
والجواب لن يكون صعباً، مادام الكل يعلم ان المسؤولية: سياسية، وعسكرية معاً، حيث يتحمل وزرها الاول الزعيم جمال عبد الناصر، ويتحمل وزرها الثاني قائد القوات المسلحة عبد الحكيم عامر، فكلاهما قد ارتكب أخطاء سياسية وعسكرية فادحة كانت تكفي لإنتاج عشر هزائم، وليس هزيمة واحدة. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، لأخطاء الرئيس عبد الناصر، قيامه بطرد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من قطاع غزة وشرم الشيخ، وقد عدّ قرار الطرد هذا بمثابة اعلان حرب على اسرائيل، في الوقت الذي كان فيه أكثر من ثلث الجيش المصري يقاتل في اليمن، وكانت الهيئات العسكرية المختصة قد رفعت لعبد الناصر قبل عام من النكسة، تقريراً عن وضع الجيش، تحذره فيه من مغبة الحرب مع اسرائيل في ظل تلك الظروف المعقدة، لكن عبد الناصر وبحركة عنترية، تشبه عنتريات صدام حسين، أمر قوات حفظ السلام بالمغادرة دون أي حساب للعواقب. وهناك أخطاء أخرى ارتكبها عبد الناصر أيضاً، من بينها تعيين صديقه الصاغ – أي الرائد – عبد الحكيم عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة بعد ان منحه رتبة مشير وهي أعلى رتبة في الجيش المصري، ولم يفكر عبد الناصر بإمكانات عامر القيادية الضحلة، وافتقاره للخبرة الميدانية، وعلوم الأركان والادارة اللوجستية بينما أركن قادة أفذاذاً في زوايا النسيان، أو في مواقع غير فاعلة، مثل الجنرال المقتدر عبد المنعم رياض الذي رماه عبد الناصر على الجبهة الاردنية ليخلص منه !
تخيلوا معي أن جيشاً يقوده (الصاغ) عبد الحكيم عامر يحارب جيشاً يقوده الجنرال الخبير موشيه ديان، فأي كارثة هذه، وأي نتيجة معلومة سلفاً ستكون؟.. كما إن قرار عبد الناصر بالسماح لاسرائيل بتوجيه الضربة الاولى، واستيعابها كما يقول، وثم الرد عليها، كان قراراً خاطئاً تماماً، حيث خرج الطيران المصري من المعركة بعد الضربة الاولى مباشرة.. لقد ذكرت المصادر العالمية أن 416 طائرة مقاتلة عربية دُمرت في اليوم الأول وهي جاثمة، بينما خسرت إسرائيل 26 طائرة فقط ! ويجب ان لا ننسى أن سياسة تكميم الأفواه التي مارسها عبد الناصر وبقية الحكام العرب كانت السبب الأول للهزيمة .. فالقمع الفكري والارهاب السياسي الذي تمارسه أجهزة الأمن والمخابرات المصرية بحق الشعب، كان فظيعاً، إذ أعدم عبد الناصر مناضلين من قوى اليسار كالقائد الشيوعي فرج الله الحلو، والقائد اليساري شهدي عطية ، الذي قتل في التعذيب، وغيرهما من المناضلين اليساريين، كما أعدم أيضاً عدداً من قادة التيار الاسلامي، من بينهم المفكر البارز سيد قطب، وأكثر من عشرين كادراً اسلامياً مصرياً، ناهيك من سجن وتعذيب كبار الأدباء والاساتذة والمفكرين المصريين على يد المجرم صلاح نصر أحد الأذرع المرعبة لنظام عبد الناصر .. وأظن أن الفيلم العربي الشهير (إحنا بتوع الأتوبيس)، الذي أخرجه حسين كمال ولعب فيه الفنان عادل إمام دور البطولة، يحكي الواقع السياسي في عام 1966 كما جاء في مقدمة الفيلم، وهو ترجمة فعلية لعهد عبد الناصر الدكتاتوري، حيث يحتوي الفيلم على مشاهد مرعبة من المعتقل الذي ضم شخصيات من اليسار واليمين، وغير السياسيين أيضاً .. ويقيناً ان الشعب المقموع لا يعرف النصر ولن يحققه إن لم يكن حراً . هذا عن اخطاء ناصر، أما أخطاء عامر فحدث عنها بلا حرج، لها أول وليس لها آخر إلا عندما رحل ..
ولأني لست عسكرياً، لن أخوض في ملف الأسباب الفنية العسكرية المحضة لكني أستطيع القول بضرس قاطع إن اعذار القيادة المصرية بعدم كفاءة السلاح المصري أكذوبة.. فالاحصائيات الرسمية تقول إن عدد أفراد الجيوش العربية المشاركة، ونوع وحجم السلاح العربي فاق ما لدى العدو عدداً وجودة، وليس صحيحاً قطعاً ما يدعيه مبررو الهزيمة العروبيون، الذين حمٌلوا (موسكو ) أسباب الهزيمة لأنها ( لم تعط لهم السلاح الفعال)!! لكن التاريخ فضحهم بعد أن عبر الجيش المصري في حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، خط بارليف الرهيب بنفس الجندي ونفس السلاح، وأذاق الجيش الاسرائيلي كأس الهزيمة المر في الأيام العشرة الاولى من تلك الحرب قبل أن يرتكب السادات سقطته الشنيعة ويوقف زخم الهجوم، والعبور نحو الضفة الأخرى، فاسحاً- بسبب تردده- المجال للجنرال آرئيل شارون، للالتفاف على خاصرة الجيش المصري في حركة، اشتهرت باسم ( ثغرة الدفر سوار) !!
وعودة لموضوع حرب الخامس من حزيران، أقول بمزيد الأسف ان المحسوبية والمزاجية في تعيين القادة كان عاملاً سلبياً فاعلاً في جميع الحروب التي هزم فيها العرب أمام أعدائهم.. فحين يقود الصبي قصي صدام حسين، وزوج أخته المتخلف حسين كامل، حربين كونيين أمام الجيش الامريكي ودول التحالف في الكويت عام 1991 وبغداد عام 2003، وهما لا يفرقان بين (اليس واليم) في مسير المشاة، ويركن قائد عسكري فذ مثل عبد الجبار شنشل وصفوة القادة العراقيين، ماذا سنتوقع غير الهزيمة الفادحة والمذلة؟!.
وهكذا يمكن القياس في الحروب العربية الأخرى ..