بقلم : فالح حسون الدراجي ..
لم ألتقِ بالشهيد محمود ناصر وجهاً لوجه، لكني أعرفه ربما أكثر من الذين التقوا به، فقد كنت اشعر بقربٍ شديد منه عبر العلاقة الأسرية الطيبة التي ربطت بيننا، إذ وفرت لي هذه العلاقة معلومات كثيرة عن هذا البطل الاسطورة، والذي بات مصدر فخر لأبناء مدينته الديوانية بمختلف اجيالهم وانتماءاتهم، فضلاً عن ما قرأته من كتابات رائعة عنه، وما سمعته على ألسنة اشخاص مجايلين له، بل وحتى من الاجيال الشابة الجديدة، مما تأكد لي بشكل قاطع صحة تلك المعلومات رغم غرابتها ..
إن الصداقة الحميمة التي جمعتني بشقيقه الشيوعي حمزة ناصر، الذي قضى خمسة عشر عاماً في السجن بتهمة الإنتماء للشيوعية، وعلاقتي الطيبة بشقيقه الآخر جبار، وما وفرته لي صلة الترابط العائلي مع شقيقته السيدة (أم احمد) زوجة الشهيد الشيوعي البطل (خالد حمادي)، ومع بقية أفراد أسرته، خلقت لدي رغبة غير عادية لمتابعة حكاية هذا الرجل الفذ، لذلك، وجدت نفسي، وانا اكتب سلسلة (شيوعيون من نوعية خاصة)، ملزماً من النواحي المهنية والوطنية والاجتماعية، بالكتابة عن هذا الشيوعي المميز، خاصة وأن (نوعية) محمود ناصر الفريدة، تغري أي كاتب، أو صحفي على تناول عالمه المدهش .. فهو لم يكن (شقياً) عادياً مثل شقاوات العراق ..رغم ان هناك الكثير من الاشقياء الذين اشتهروا بقيمهم، ومواقفهم الإنسانية، والاجتماعية، والاخلاقية الطيبة، وعرفوا بوطنيتهم، أيضاً ودفاعهم عن الفقراء والمظلومين من ابناء مناطقهم ومحلاتهم، مثل الشقي المعروف خليل ابو الهوب الذي دخل السجن (مجرماً) وغادره (شيوعياً) وطنياً يدافع عن حقوق الناس المقهورين، بعد تاثره باخلاق وشهامة ووطنية وصمود السجناء الشيوعيين الذين كانوا معه في المعتقل… لكن جميع الشقاوات بمن فيهم (ابو الهوب)، لم يحققوا ما حققه محمود ناصر ..
لقد توصلت بعد الدراسة والتحليل الى ان محمود ناصر شخصية مركبة، بعضها (جيفاري) – نسبة الى القائد الثوري الاممي التاريخي (تشي جيفارا)- وبعضها (غفاري)- نسبة الى أحد أقرب اصحاب الإمام علي بن أبي طالب، وأحد أبرز شخصيات اليسار في التاريخ الاسلامي: أبو ذر الغفاري.
اما كيف اجتمعت في شخص محمود ناصر :
شيوعية وأممية جيفارا، و (إسلامية) ابي ذر الغفاري الصحابي الذي كان ترتيبه الخامس في الإسلام، والذي شكل مع سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، والمقداد بن عمرو، الأركان الاربعة من صحابة النبي محمد، حسب المفهوم الشيعي.. ولمعرفة سر هذا التركيب في شخصيته، علينا كشف السمة المشتركة التي تجمع بين (شقي عراقي) ولد وعاش في مدينة جنوبية / فراتية)، وقائد شيوعي أممي كبير، مع صحابي آمن بالإسلام قبل ان تبث دعوته الى الناس، وهذه السمة واضحة لا تحتاج الى أدلة، إذ يكفي ان الأشخاص الثلاثة قد دفعوا حياتهم ثمناً لها.. وأقصد بها سمة الدفاع عن الفقراء والضعفاء، ومواجهة قوى الاستبداد والتصدي للحكام الطغاة، والأثرياء الذين أثروا على حساب الفقراء الكادحين.
إن ما يجمع بين (جيفارا ) ومحمود ناصر برأيي اكثر من جامع، فهما ثوريان ياسلان دون شك، وهما شيوعيان يسعيان لتحقيق الاشتراكية عن طريق الكفاح المسلح .. لذلك غادر جيفار موقعه الوزاري في الدولة الكوبية بعد انتصار الثورة فيها، حاملاً بندقيته ليقاتل دفاعاً عن الحرية، وقضايا الفقراء في الكونغو، وغواتيمالا، ويستشهد على أرض بوليفيا، على يد قوة قتالية مشتركة من المخابرات الامريكية، وكتيبة من القوات الخاصة البوليفية المدربة تدريباً عالياً، فكانت العملية عبارة عن عملية امبريالية خسيسة، دبرت لقتل هذا القائد الاممي الكبير، وكما معروف فقد قاتلهم الثائر جيفارا حتى الطلقة الأخيرة رغم جراحه التي كانت تنزف دماً.. والشيء نفسه حدث لمحمود ناصر، فقد انتسب للحزب الشيوعي العراقي، متخذاً طريق الكفاح المسلح ايضاً، وحين انهارت التجربة، ونشطت التصفيات البعثية والاعتقالات، حمل بندقيته واختفى في أحد ارياف ( الديوانية)، وكان يأتي للمدينة بين حين وآخر.. حتى جاء اليوم الأخير من شهر أيار عام ١٩٧١، الذي تعرض فيه الى عملية خسيسة، دبرت له من قبل السلطة الفاشية، حيث داهمته قوة أمنية – عسكرية بمستوى (سرية) ضمت فصيلاً من استخبارات الفرقة الاولى، التي كان مقرها في الديوانية، وعدداً مدرباً تدريباً خاصاً من (أمن بغداد) جاؤوا خصيصاً لهذه العملية، اضافة الى قوة مسلحة من شرطة الديوانية، وقد استخدمت بهذه العملية مدافع رشاشة، واسلحة ثقيلة.. ويقال إن العملية تمت باشراف نعيم حداد عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك، وقد قاتلهم محمود ناصر قتالاً بطولياً، فكان يواجه لوحده قوة كبيرة، ورغم الخيانة التي تعرض لها، والتي يعرفها أبناء الديوانية.. فأنه لم يستسلم حتى بعد ان نفد عتاده، وفشل الرمانة التي قذفها نحوهم ولم تنفجر.
هذا عن جيفارا ومحمود ناصر، أما السمات التي يشترك فيها محمود ناصر مع الثائر الفذ (أبو ذر)، فقد كانت عديدة، فمن الناحية الجسمانية، كان الغفاري كما يقول المؤرخون: (رجلًا آدمًا ضخمًا جسيمًا، كث اللحية، طويلاً…. الخ)، وهي ذات مواصفات البطل محمود ناصر .. كما يقول التاريخ، ان أبا ذر كان قاطع طريق قبل الإسلام، وطبعاً لم يكن الرجل يسرق ويستولي على مال الأغنياء ويستأثر به لنفسه ومعاونيه، بل كان يوزعه على الفقراء والمحتاجين ويكتفي هو بالكفاف، وعندما سمع بالإسلام، أتى إلى النبي محمد وأسلم على يديه، فهجر الصعلكة، وقطع الطرق الى الأبد.. ومثله كان محمود ناصر، (شقياً) لايتوانى عن ضرب كل من يقف في طريقه.. وعندما أصبح (شيوعياً) لم يعد شقياً يضرب أحداً، إلا من اجل نصرة مظلوم او إعانة فقير، وله في هذا المجال قصص يرويها عنه بفخر أبناء الديوانية.. وثمة صفة يشترك بها أبو ذر مع محمود ناصر، وأقصد بها حب الفقراء، فعندما كان عطاؤه من بيت المال أربعة آلاف، كان يدعو خادمه، فيسأله شراء ما يكفيهم للسنة، ثم يفرق بقية المال على الفقراء ..! وهذا ماكان يفعله أيضاً محمود ناصر، الذي لم يكن له راتب من الدولة، فكان يأخذ الاموال بالقوة من الأثرياء الأوباش، ومن المسؤولين الفاسدين، ويوزعها على الفقراء، فمثلاً كان محمود ناصر يذهب قبل الأعياد الى الأثرياء في الديوانية، ولا يغادر إلا وهو يصطحب السيارات المحملة بالأقمشة، والمواد الغذائية ليوزعها في الأحياء الفقيرة والمعدمة.
وحول شرفه وغيرته على نساء مدينته، اشتكت اليه في يوم ما امرأة، طالبة منه حمايتها من ضابط شرطة كان (يضايقها، ويهددها)، فذهب اليه محمود وهو في مركز الشرطة، ليقتحم مكتبه، ويشبعه لكماً وضرباً، ثم (يسحله) في طول وعرض باحة المركز وأمام أنظار منتسبي المركز، ولم يخرج من مركز الشرطة إلا بعد أن أدبه تأديباً بحيث طلب هذا الضابط في اليوم الثاني نقله الى محافظة أخرى.. إن هذه السمات لم تكن وحدها تجمع بين ابي ذر ومحمود ناصر، إنما هناك الكثير غيرها.. فمثلاً كان الغفاري يذهب لمعاقل السلطة والثروة، ويغزوها بمعارضته معقلاً معقلاً، وما أن يسمع فقراء الشام بمقدمه حتى يستقبلوه بحماسة وشوق ويلتفوا حوله أينما يذهب وهم ينادون عليه: حدثنا يا أبا ذر حدثنا.. فيلقي أبو ذر عليهم نظرات فاحصة، ويرى أكثرها من ذوي فقر وعوز .. ثم يرنو ببصره نحو القصور والضياع، ويصرخ قائلا : عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج شاهراً سيفه ..” !!
لقد كانت قضية أبي ذر، ومحمود ناصر وجيفارا، قضية واحدة، تتلخص بالدفاع عن الحرية والعدل والمساواة والقتال حد الموت لأجل الفقراء والمحتاجين ورفع الظلم عن المقهورين ..