بقلم: فالح حسون الدراجي ..
كثيراً ما كنت أسأل نفسي: بمن سيفخر البعثيون إذا ما أرادوا الفخر يوماً.. لا سيما وأن أغلب رموزهم قتلة ومجرمون، او أذلاء منافقون، او جبناء وخونة وغادرون، ولا أريد أن أتحدث عن ذلك بالأسماء، لأن موضوع مقالي اليوم أسمى من أن أُلوثه بعصابة، راح بعضها يغدر بالبعض الآخر، حتى انتهت عند (حفرة العار ) الشهيرة ..!
بينما سنجد في المقابل قوائم الفخر والتباهي لدى الاجيال الشيوعية كثيرة ومزدحمة تبدأ من روعة مؤسس الحزب فهد ورفيقيه حازم وصارم مروراً بأسطورة الصمود سلام عادل، وكواكب الشهداء البواسل رجالاً ونساءً، على طول وعرض التاريخ الوطني، ولا تنتهي الأمثلة الشيوعية الفذة عند بعض قيادات الحزب الشيوعي، بل تتسع لمئات العناصر البسيطة أيضاً..
واليوم يشرفني ان أعرض أنموذجاً ساطعاً من هذه الامثلة المضيئة التي باتت مصدر فخر وتباه ليس لأفراد عائلاتها فحسب، بل مصدر فخر لكل الشيوعيين وأصدقائهم، ولأبناء مناطقهم، وكذلك لعشائرهم، ومعارفهم من غير الشيوعيين. والنموذج الذي أتحدث عنه يتمثل بالمناضل المعروف في الأوساط الشيوعية والعمالية في مدينة الثورة وفي أغلب مناطق بغداد الشعبية.. وأقصد الفارس إسماعيل كريم البهادلي (أبو علي)، ذلك الرجل الذي لن أتردد أبداً حين أقول عنه جازماً: هيهات أن تلد النساء بطلاً مثله حتى بعد عشرين جيلا.. فقد كان الرجل أنموذجاً للرجولة، والجسارة، وقدوة للتحمل والصبر من أجل المبادئ الوطنية والاشتراكية.. ومثالاً حياً في الإخلاص والالتزام والقيم الأخلاقية والوطنية.. فمن هو هذا الرجل، وكيف صار شيوعياً، وما قصته مع البعث، ولماذا تعرض للسجون والاغتيال والملاحقة والمراقبة عشرات السنين؟
إن قصة إسماعيل كريم البهادلي، المولود عام ١٩٣٤ في قضاء الكحلاء / محافظة العمارة، تبدأ من بداية خمسينيات القرن الماضي عندما انتقل الى العاصمة مع عائلته وهو لم يزل في أول شبابه، وسكن في منطقة باب المعظم (الكرنتينا)، ثم انتقل الى صرائف (الميزرة) ثم مدينة الثورة. وفي تلك الفترة المبكرة اشتغل إسماعيل عاملاً في معمل (جگاير تركي)، ومن خلال العناصر الشيوعية في هذا المعمل، تعرف على الفكر الماركسي، وقبل ذلك كان الفتى قد اكمل دراسة (محو الأمية)، ونال شهادة الابتدائية، ثم راح بعدها يلتهم كتب الأدب والسياسة مثل رأس المال لماركس، والفلسفة الماركسية، وأصل العائلة لإنجلس، وروايات مكسيم غوركي، حتى أنه من فرط اعجابه بهذا الكاتب أسمى
أحد أحفاده (مكسيم )، كما أسمى أحد أولاده (بافل)، تيمناً بإحدى الشخصيات المهمة في رواية (الام ) لغوركي- وأسمى إحدى بناته (تانيا) اعتزازاً بالمناضلة الشيوعية الألمانية (تانيا)، رفيقة جيفارا التي استشهدت معه، وأسمى بنته الأخرى إنجيلا حباً بالمناضلة الشيوعية الامريكية انجيلا ديفيس .. كما أسمى احد أحفاده (فكر) تيمناً بالفكر التقدمي الإشتراكي، ولكم أن تتخيلوا وضع أصحاب هذه الأسماء في مدينة شعبية مثل مدينة الثورة، وفي ظل حزب شوفيني يقود الدولة مثل حزب البعث، لا سيما في دوائر النفوس والاحوال المدنية.. المهم أن الرجل وبعد هذه القراءات الماركسية، والأنشطة التثقيفية العمالية التي كان العمال يقومون بها، وبعد توفر القناعة التامة بالفكر الماركسي اللينيني، انتمى اسماعيل أبو علي للحزب الشيوعي العراقي، وأصبح عضواً فيه منذ منتصف الخمسينيات، ثم انتقل عمله بعد ذلك الى معمل (باتا) الذي كان وقتها يضم عدداً من العمال النقابيين والشيوعيين.. وبقي أبو علي في الحزب الشيوعي عضواً نشيطاً، لم يغادره حتى رحيله الأبدي في شباط ٢٠٢٠، وخلال أكثر من خمسة وستين عاماً نضالياً من عمره، حلّ أبو علي (ضيفاً) على أغلب معتقلات الأنظمة القمعية في العراق، وكانت البداية مع سجون ومعتقلات بهجة العطية ونوري السعيد، في سجن الكوت والحلة والبصرة، وكانت تلك الاعتقالات قصيرة، تتراوح فتراتها بين الستة أشهر والسنة، لا سيما وأن اسباب الاعتقال كانت بسيطة لا تستدعي احكاماً طويلة.. وهنا اود الإشارة الى نقطة مهمة هي أن جلادي معتقلات نوري السعيد لم يكونوا أقل بطشاً من (رفاقهم) البعثيين في قصر النهاية، او دوائر الامن العامة او الشعبة الخامسة كما يظن البعض، وقد أتيحت لي فرصة قراءة كتاب (من أعماق السجون في العراق) تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) الذي نشره باسم مستعار ، هو (محمد راشد) ووزعه عام 1955 في مهرجان الطلبة والشباب في وارشو، لكن الكتاب اختفى من السوق، فقام الأستاذ محمد علي الشبيبي بإعادة طبعه ونشره مشكوراً عام ٢٠١٣، وعبر سطور هذا الكتاب تظهر جليةً بطولة وصمود السجناء الشيوعيين أمام وحشية الجلادين في تلك السجون والمعتقلات .. ويقيناً أن المناضل البطل اسماعيل كريم كان أحد هؤلاء السجناء الأبطال، فالرجل (زار) كل السجون كما ذكرت، وله في كل سجن ومعتقل موقف وذكرى مشرفة يتحدث عنها رفاقه وأصحابه، سواء في مواجهة اولئك الجلادين، أو في التعامل مع السجناء البعثيين، او حتى السجناء العاديين المدفوعين من قبل إدارات السجون.. فمثلاً كان الحرس القومي قد اعتقل اسماعيل بعد انقلاب شباط الأسود، كونه مسؤولاً عن تنظيم خط شيوعي (عسكري)، وظل اسماعيل سجيناً في سجن (رقم واحد) حتى صدور قرار العفو العام بعد انقلاب ١٧ تموز عام ١٩٦٨، وتشاء الصدف ان يكون صدام حسين سجيناً معه في سجن (رقم واحد) عام ١٩٦٤، ويصبح صدام وعصابته أمام الشيوعيين وجهاً لوجه.. علماً أن الكفة في ادارة السجن كانت تميل لصالح البعثيين، بسبب تعاطف اركان الحكومة وضباطها القوميين الكبار معهم.. لكن المناضل أبو علي ورفاقه (الأقوياء)، أسقطوا هذه الميزة عبر ثباتهم وعنفوانهم الرجولي، صحيح أن ثمة حاجزاً – وإن كان بسيطاً يعزل بين الفريقين- لكن الشيوعيين والبعثيين كانوا يختلطون سوية في أغلب الاوقات سواء في القاعة او في غيرها.. وفي مرة أراد صدام ان (يبيع هيو براس السجناء) وكان معه عدد من البعثيين مثل عبد الكريم الشيخلي واحمد ابو الجبن وغيرهم فاختار صدام أن يجرب حظه- بقصد أو بدون قصد -مع (أبو علي) باعتباره الأقوى والأشرس بين السجناء الشيوعيين، وحتى يكسر شوكة الشيوعيين، صاح على اسماعيل بلهجة الأمر والسخرية قائلاً: رفيق اسماعيل.. روح نادي لي على السجين فلان، وگلو إصدام يريدك حالاً .. ” !!
لكن اسماعيل الشاب الجنوبي القوي، والفارع الطول، والصلب، والعنيد، و(أخو أخيته) حرم صدام من هذه (البوزة) والفوز بهذا الإستعراض الفنتازي، فقال له بلهجة جافة جداً: أولاً، انا مو رفيقك، أنتم ناس فاشست مجرمين، قتلة، واحنه مناضلين وطنيين.. ثانياً إنت عندك صوت وعندك لسان، تگدر تنادي عليه، ثالثاً إذا كررتها مرة اللاخ راح تشوف مني غير شي .. وانت تعرف شنو.. افتهمت ..؟!
فصمت ( أبو عدي) وبلع الإهانة وسط استغراب رفاقه، وكأن شيئاً لم يكن.
بعد إعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم عام ١٩٦٩، أعيد اسماعيل الى العمل والتحق بمعمل الجگاير، لكن السلطات البعثية لم تبقه فيه كثيراً، فقامت بنقله الى معمل الببسي كولا، ورغم أن الرجل معروف باخلاصه وجديته في العمل لكنهم نقلوه مرة أخرى أيضاً لمعمل ورق البصرة، في محاولة لدفعه نحو الاستقالة، بعدها نقل الى معمل ورق التاجي.. وهكذا كان أبو علي يتنقل بين المعامل، وفي كل مرة يعرضون عليه الاغراءات والمنافع مقابل خروجه من الحزب الشيوعي والانتساب لحزب البعث، فكان أبو علي يضحك، ويقول لهم: إذا بهجت العطية وناظم گزار ما گدروا يطلعوني من الحزب، أنتم تطلعوني؟!. في احدى المرات، وكان ابو علي يسكن مع عائلته بالإيجار في مدينة الثورة، في منتصف السبعينيات، ولأنه عامل ولا يملك داراً، ولديه نقاط كثيرة، منها أنه ذو عائلة كبيرة عددها أحد عشر فرداً، فقد فاز عن طريق القرعة بأحد البيوت الحكومية المخصصة للعمال في حي ( ٧ نيسان) .. وعندما تقدم ليستلم مفاتيح البيت الجديد حاله حال زملائه الفائزين، قال له المسؤول بوقاحة: إسمع يا إسماعيل سأسلمك هذه المفاتيح وسيكون البيت ملك طابو لك، لكن لديّ تعليمات أمنية وحزبية، تقضي بعدم منحك الدار قبل موافقتك بالإنتساب لحزب البعث !!
فهز اسماعيل يده، وقال: (أستاذ ترى قبلك جربوا وياي هواي وفشلوا) !!
ثم عاد الى أسرته خالي الوفاض، وظل في الإيجار مع عائلته في قطاع ٧١.
لم يكتف البعثيون وأعداء الشيوعية باعتقال أبي علي، ولا بمضايقته في رزقه، ولأنهم لا يقدرون على مواجهة هذا الفارس الصنديد، وجهاً لوجه، فقد دبروا له عدة محاولات اغتيال، كان من بينها اصابته بطلقات نارية في رجله قرب سوق مريدي، لكن أبا علي كان يقف لهم بالمرصاد، ولا يتوانى عن فضحهم، بل وشتمهم إن وجد الكلام اللائق لا يفيد معهم.. وللتاريخ، فإن اسماعيل شارك في انتفاضة آذار – شعبان المجيدة- وكان هو الرجل الملثم الذي تصدى للحرس الصدامي الخاص في سوق مريدي بالرصاص، وقد شهد له بذلك أبناء الانتفاضة أنفسهم..
لقد كان البعثيون يبحثون عن أي مبرر لاعتقاله او مضايقته، فتارة يتهمونه بعدم تعليق صورة صدام في بيته، وتارة يستدعونه في دائرة امن الوحدة في مدينة الثورة بسبب عدم حضوره أو مشاركته في احتفالات البعث، أو ميلاد صدام.. خاصة وإن أسرته الكبيرة لا تضم فرداً واحداً في صفوف البعث.. لذلك كانت الاتهامات والاستدعاءات الأمنية والحزبية تتوالى عليه، لكنه واجهها بقوة وصلابة، حتى أنه قال مرة لاحد المسؤولين: أنا شيوعي واحتفل بميلاد حزبي الشيوعي فقط.. ثم سأل ذلك المسؤول بسخرية قائلاً: هل تحتفل انت بعيد ميلاد الحزب الشيوعي، حتى احتفل أنا بميلاد حزب البعث؟!
بعد سقوط النظام، قام اسماعيل بعمل وطني فذ إذ وبعد أن تعرضت دوائر الدولة للسلب والنهب، وقف بسلاحه مع اولاده لحماية البدالة الحكومية التي تقع قرب مستشفى الچوادر، لفترة طويلة، وقد نجح في حمايتها وتسليمها الى الجهات المختصة بكامل طاقتها.
في آخر لقاء كان لي معه، عندما زرته في المستشفى قبل رحيله بأيام قليلة، وأنا بصحبة زوج ابنته الصديق والزميل عباس غيلان، وبحضور نجله الكبير الصديق علي (أبو عمار).. رفع إسماعيل رأسه نحوي ومسكني من يدي، وقرب فمه من أذني، قائلا: أنا سعيد يا فالح لما تقدمه من إبداع في خدمة حزبنا العظيم.. حزب (خيون) !
لقد رحل اسماعيل كريم البهادلي ذلك الشيوعي العتيق، والرجل الذي أدخل الرعب في قلوب البعثيين، ومن سار على نهجهم.. رحل أبو علي، فخسرنا برحيله رجلاً لن تلد النساء بطلاً مثله قط.