بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لم يكن غازي الكناني صديقاً مثل أي صديق، ولا شخصاً عابراً مرّ في محطات حياتي ومضى، إنما هو أكثر بكثير من ذلك، ولا أبالغ لو قلت إن بعض أصدقائي المقربين الذين كانوا يعرفون تلك العلاقة النبيلة التي لامست حدود الأخوة بيننا، كانوا ( يغارون) من تلك الحميمية الأخوية النقية التي كانت بيننا.. فمثلاً كان (أبو عمار) لا يناديني إلا بكلمة (العزيز) -بكسر حرف العين – وكان يقول لزوجته السيدة أم عمار ولزوجتي ام حسون عندما تجتمع عائلتانا معاً، وهو يسألهما بلهجته الجنوبية الدافئة: بالعباس أبو فاضل، هذا فالح مو بس (صديجي) إنما هو أخوي. ثم يتوجه اليهن بالسؤال قائلاً: سامعات بالأخ الذي لم تلده أمك.. هذا أبو حسون أخي الذي لم تلده أمي ..!
وطبعاً، فأن الرجل لم يقل هذا الكلام مجاملة، ولا تودداً، إنما كان نتاج علاقة أخوية حقيقية بيني وبينه.. فقد بدأت علاقتنا الفعلية في عمان العام ١٩٩٧، رغم أننا كنا على معرفة ببعضنا قبل هذا التاريخ بسنوات.. ويوم وصل أبو عمار الى عمان هارباً من القسوة والضيم والتمييز.. كنت قبله هناك، حيث سبقته بالقدوم الى العاصمة الاردنية بأكثر من سنة.. وقد كنت أول من احتضنه وساعده، ووقف الى جانبه، وعرّفه على الأصدقاء من المثقفين المعارضين، وهكذا بتنا في عمان لا نفترق قط، ومعنا عدد من الزملاء والاحبة المثقفين الذين يصعب عليّ ذكر أسمائهم جميعاً في هذا المقال المحدود.. لقد تمكن أبو عمار بطيبته وحميميته وصدقه من كسب جميع الزملاء والأصدقاء هناك.. وعندما عملت في اذاعة العراق الحر قبل سفري الى أمريكا، تمكنت من إشراكه معي، وتكليفه بإجراء لقاءات اذاعية، كما راح يكتب لجريدة الزمان، التي كنت أحد مؤسسيها، فضلاً عن تسهيل أمره في التواصل مع صحف المعارضة كجريدة بغداد والوفاق، ومن ثم جريدة المؤتمر .. وكان أبو عمار ينجح في جميع الميادين التي يدخلها، ليس فقط بسبب امكاناته الفنية العالية، إنما أيضاً بسبب حرصه واخلاصه واحترامه لفنه ولذاته، لذلك كان طموحه كبيراً، وأمنياته الخضر لا حدود لها ..وكم كان يمني نفسه بالعودة الى وطننا بعد سقوط نظام صدام، والشروع بتنفيذ أفكاره الفنية والوطنية الكثيرة، واشاعة القيم الاخلاقية والابداعية الجديدة في الميدان الفني، تلك القيم التي تستند الى مفاهيم رصينة، تمتزج فيها الاصالة بالحداثة والعلم بالموهبة. نعم، لقد كان صديقي أبو عمار يحلم كثيراً، ويتحدث لي بصوت عال عن هذه الاحلام، وكأنه واثق تماماً من سقوط النظام غداً أو بعد غد، وواثق أيضاً من تحقيق امنيته بمجرد أن يعود الى العراق.. ويوم سقط النظام الدكتاتوري، وعاد أبو عمار لوطنه الحبيب، تبعثرت احلامه في صحراء المحاصصة، ولم يجد غير السراب، بعد ان تبخرت الامنيات الصافية في مستنقعات الأنانية والتمييز والطائفية الضحلة والنظرة القاصرة والمتخلفة للفن والفنانين، فكان الثمن الذي دفعه باهضاً، لم يتوقف عند إهماله، وإقصائه وعزله فنياً ومهنياً فحسب، إنما كان الثمن في صحته التي تعرضت أيضاً الى نكسات متلاحقة .. فاضطر للعودة الى استراليا، ولكن الرجل المتوهج بحب العراق لم يتحمل ذلك، فعاد مسرعاً الى بغداد، رغم جحود مسؤوليها.. ولعل الشيء المهم أن الرجل لم يتبرم، ولم يغضب، أو يحقد على احد، رغم كل الصدود والجحود الذي لاقاه..
أذكر قبل حوالي اربع سنوات، اتصل بي الكناني فرحاً، وهو يقول لي: اليوم زرت مقر الحزب الشيوعي العراقي، وقد استقبلني ( الرفاق ) بحفاوة بالغة، فشعرت لاول مرة في العراق، بأهميتي كفنان، وقيمتي كمواطن عراقي.. وقبل سنتين انتكست صحة الكناني مرة ثانية، وعادت اليه أوجاع العملية التي أجراها قبل حوالي ثماني سنوات، لكن (زاير فزع) – الشخصية التي مثلها أبو عمار في مسلسل جرف الملح- لم يستسلم للأزمات الصحية فتمرد على أوجاعه، وقاوم مرضه، وظل عصياً على الموت، حتى استسلم له يوم السبت ١٥ تموز ٢٠٢٣ بعد أن أكمل السادسة والثمانين من عمره..
لقد كان غازي الكناني ابن أسرة فلاحية بسيطة أجبرتها الظروف على مغادرة ديارها في إحدى قرى (العمارة)، والإقامة في العاصمة بغداد مطلع ثلاثينيات القرن الماضي.. وحين أبصر النور عام ١٩٣٧ في منطقة الكرادة الشرقية، لم يكن أحد في عائلة غازي الكناني (فناناً) او يتعاطى العمل الفني.. لكن (غازي ) صبر وناضل وقاتل لوحده، حتى حفر بأضافره في صخر الحياة، ليخلق له موقعاً واسماً فنياً محترماً.
وعلى ذكر (الكرادة)، كان أبو عمار المعروف بلهجته الجنوبية الصافية، يشترك ويختلط عنده (البث) أحياناً، فيقذف في كلامه باحدى الكلمات البغدادية دون قصد منه، والرجل معذور في ذلك، فهو بغدادي المولد والنشأة، ولا غرابة في ان تنزلق من لسانه احدى الكلمات البغدادية، لكني كنت أستغل ذلك، وأشاكسه بخبث، حتى تزهق روحه مني.. مرة سألته عن شيء ما، فأجابني قائلاً: (هياته) – وهي كلمة بغدادية تعني: (هذا ).. وطبعاً، فقد وجدتها فرصة.. فقلت له: (هياته) يا أبو عمار ؟ يعني الله يقبل تطفر من الخريط الى ( الهياته) ؟!
فضحك رحمه الله، وقال غامزاً من قناتي: چا خويه الهياته الي ولاهلي.. على الأقل آني مولود بالكرادة الشرقية، خو مو مولود بكميت ..!!
وهنا أود أن أشير الى نقطة معينة، يعرفها كل أصدقاء ومحبي الراحل الكناني، فهو – ولكونه شخصاً طيباً، مسالماً، حميمياً ودوداً- كانت دمعته تقف على أطراف عينيه، فتسقط لسبب أو بدون سبب، ولا أظن أني سأنسى او ينسى أفراد عائلتي، تلك الدموع التي ذرفها (أبو عمار) وهو يودعني مع صديقي الاعلامي والكاتب طارق الحارس، وبقية الأصدقاء الذين جاؤوا الى مطار عمان لتوديعي تلك الليلة التي رحلت فيها مع عائلتي الى أمريكا، وهو يصرخ لحظة الوداع قائلاً : أبو حسون خويه، يعني باچر ما راح نشوفك بمقهى السنترال، ولا نگعد وياك؟..
ثم راح يصرخ بصوت عال أبكاني وأبكى الجميع، رغم علمه بأن نظام صدام سيسقط حتماً، وسنلتقي! لكن أبا عمار غادر الى أستراليا قبل سقوط نظام صدام، وأقام فيها سنوات عديدة، وطبعاً فأن الرجل لم يستسلم هناك، فقد عمل بالسينما والمسرح، والصحافة ومنظمات حقوق الانسان.. وحين التقيته في العراق بعد السقوط بسنوات لم أجده إلا ذلك الفنان الطموح، والعراقي المتّقد حماسة، ووطنية، رغم اصطدام آماله بجدار المحاصصة الكونكريتي.. واليوم، إذ يرحل غازي الكناني، أو ( زاير فزع) الى مثواه الأخير، فأني لا أعرف ماذا أفعل، وأي دموع دامية أذرفها على هذا (الأخو) و( العزيز)، وهو الذي مضى دون أن اودعه.. ثم ماذا سأقول له وأنا أعرف أننا لن نلتقي أبداً، حتى لو سقط الف نظام صدامي.. ثم من سيبكي معي، وأنا المقيم في آخر مدارات الكون، وخارج شبكة التواصل والحنين الاجتماعي ؟!
ثم أين هو طارق الحارس، ليبكي معي في وداع (المسافر) غازي الكناني الى محطته الأخيرة، التي لن يعود منها أبداً أبدا ..!