بقلم : د. مظهر محمد صالح ..
كان مجلس فطوري في نهار مشرق طل على نهر امستل اشبه ما بحوار مع شذرة لامعة تحاكي مجرى النهر الذي يقطع مدينة امستردام ولم يسقط نظري في تلك اللحظة الا على ملامح الدنيا التي بدلها شروق الشمس بعد ليلة شديدة المطر كاد نهر امستل ان يغرق فيها نفسه.. ولكن هكذا غدا جريانه محافظاً على هيبته وكبريائه، بعد ان تعلقت خيوط الشمس بمسامير ضاربة في امواج النهر، وهي تبحث كنسر هادئ قضى ملايين السنين عن سمكة ضالة في ثنايا ذلك النهر الهادر. كان مكاني هو فندق امستل الذي اشتق اسمه من النهر نفسه والذي افتتح في العام وهو يجاور في ضفافه المسرح الملكي الهولندي ومتحف الرسام فان كوخ. يومها بدا كل شيء في تلك الساعة يلامس عقلي لاكتشاف الذات والبحث عن حقيقة الوجود البشري ومرارة الزوال وعقم الحياة التي تسير نحو نهاياتها مع مسارات النهر نفسه. قلت في سري كيف نملأ الذاكرة بقوة نهر امستل ومياهه التي لامستها الشمس, وانا مازلت اشغل وقتي بمحاولة مستمرة لكي اعرف نفسي من هي! وعندما اكتشفها سأستطيع ان اغادر الحياة آمناً مطمئناً!.
وضعت عاملة المطعم قدح الشاي الدافئ على طاولتي.. وتطلعت نحوي وهي تتحسس قواعد اللعبة التي امتدت في ذاتي، وهي تخشى ان افقد حقائق الزمان والمكان ضمن نعاس الصباح.. اي حقيقة الادراك الحسي الخام في عالم غادر ابطاله النوم جميعاُ. استيقظت فجأة من غفوتي وهي تبتسم.. قائلة لي ان فندق امستل في امستردام يفخر برواده المميزين دوماً وان في هذا الفندق وفي هذا المكان جلس الموسيقي الاميركي الراحل مايكل جاكسن قبل سنوات من رحيله في العام 2009 وهو احد رواد فندقنا!. ادهشني حديث عاملة الفندق الفتاة الشقراء المتوسطة القامة وهي تكلمني عن عالم يظل ابطاله من السائرين نياماً. إذ انصهرت لدي الحقيقة في تلك اللحظة، وتذكرت مدينة البصرة الفيحاء، وتحديداً فندق شط العرب، ذلك الفندق الذي اشتق اسمه من نهر عظيم قوياً في جريانه اسمه شط العرب. فقد شيد ذلك الفندق في العام 1931 وافتتح عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية وهو ما زال يطل على نهرٍ عظيم اسمه شط العرب. حالفني الحظ ان اكون احد زائري ذلك الفندق قبل خمسة عقود ونيف. يومها حدثني احد العاملين في الفندق باطلالته الرائعة على شط العرب قبالة جزيرة السندباد، قائلاً ان سراً سياسياً هائلاً يلف هذا المكان من الفندق! قلت وما هذا السر؟ اجابني ان زعيم حركة استقلال الهند ورئيس وزرائها الاسبق الراحل جواهر لال نهروا قد التقى بزعماء المعارضة الهندية، وهم من رواد حركة الاستقلال ويمثلون طيفاً من المنظمات السياسية والفلسفية والاجتماعية ممن شاركوا من اجل هدف واحد هو انهاء حكم شركة الهند الشرقية والسلطة البريطانية. فيومها عقدوا مؤتمرهم في هذا الفندق وهو احد مكونات مطار البصرة الذي كان نقطة التقاء الشرق بالغرب، وتداولوا في اجتماع عاجل بشؤون الاستقلال قبل ان تتحرر الهند ويغادرها الاستعمار البريطاني ويعلن استقلالها في 15 آب 1947!
نظرت الى عاملة فندق امستل وهي ترفع الاكواب والاواني من على طاولتي، وتلبسني في حينها القهر والحرج عندما تذكرت ان فندق شط العرب قد دخل حيز النسيان وصار مهجوراً منذ ان تبادلت المدافع نيرانها في حرب العام 1980 ولم يصح فندق شط العرب من نومه الا على حركة بنادق القوة البريطانية المقاتلة المحتلة التي جعلت منه مقراً لها بعد اجتياحها البصرة في العام 2003.
وبهذا، ففي عالم الذكريات تظل الروافع البشرية النادرة التي تصنع التاريخ هي التي تجمع تلاحم الانهار وتصهرها في مصب واحد. فشط العرب وجواهر لال نهرو ونهر امستل ومايكل جاكسون، يظلان يلتقيان كشاهدين على صناعة آمال الشعوب الحية وذكرياتها التي تبقى تدمن التاريخ والثفافة.