بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لا شك أن التنافس بين المدن، ظاهرة تتكرر في مختلف الأزمان والأماكن. والأمر لايتوقف على بلد واحد مثل العراق.. إنما يحدث مراراً في دول اخرى مثل مصر وسوريا والمغرب وبريطانيا واسبانيا وامريكا والكثير من دول العالم..
ولا غضاضة أو عيباً قط حين يكون التنافس بين المدينتين ودياً، وبروح رياضية، وتكون غايته المنفعة العامة، وخدمة أهداف ومصالح أبناء المدينتين، ومن ثم مصالح البلاد كلها.
لكن المشكلة تكون، حين تتحول المنافسة بين مدينتين (شقيقتين) الى كوارث دامية واقتتال تزهق فيه الأرواح البريئة، كما حدث أكثر من مرة للأسف بين مدينتي أربيل والسليمانية الكرديتين.. فالتنافس بين هاتين المدينتين لم يكن تنافساً سياسياً كما يظن البعض، إنما كان تنافساً شاملاً لم يوفر ميداناً واحداً من ميادين الحياة فيهما..
وعلى العكس من النموذج الكردي (المدمر)، ثمة تنافس آخر، تنافس نافع ومشروع وإيجابي، ومن امثلته في العراق، التنافس التاريخي المعروف بين مدينتي راوه وعنه، اللتين تقعان في محافظة الأنبار، حيث دفع هذا التنافس (السلمي)، أعداداً كبيرة من أبناء المدينتين الى العمل الجاد، والكفاح المثمر، وطلب العلم، وبذل كل الجهود من أجل الوصول الى أعلى المواقع الإدارية والعلمية والاقتصادية في العراق، وقد تحقق لهم ذلك، بفضل روح التنافس المتوهجة بين المدينتين.
لكن الأكثر تأثيراً وأهمية -برأيي- كان ذلك التنافس القديم الجديد، (المخفي والمعلن) بين مدينتي تلكيف والقوش، اللتين تقعان في سهل نينوى .. وقبل الشروع بالحديث عن مظاهر التنافس بين هاتين المدينتين.. يتوجب علينا معرفة البعض من تاريخهما، لا سيما وأن هناك الكثير من العراقيين خصوصاً الذين يسكنون مدن الوسط والجنوب، لم تتح لهم فرصة التعرف على تاريخ وثقافة وانجازات اخوتهم الذين يسكنون هاتين المدينتين، أو بقية المدن المسيحية الأخرى التابعة لسهل نينوى في محافظة نينوى. لقد تأسست تلكيف والقوش – حسب مصادر ودلائل وآثار ومطبوعات وأحداث ووقائع موثوقة- قبل ميلاد السيد المسيح، وهذا يعني أن عمريهما تجاوز الألفي سنة..
ولعمري فأن الكاتب الذي يروم الكتابة عن هاتين المدينتين سيواجه مأزقاً أشد وهو يتناول منجزات ومآثر وكنوز وأسماء مبدعي تلكيف والقوش،إذ سيحتار فيمن سيذكره منهم في مقاله، ومن سيهمله، لا سيما وأن الجميع يستحق الذكر، بل والاشادة أيضاً.
وحين أقول (الجميع)، فهذا يعني آلاف العلماء والمناضلين والشهداء والكتاب والصحفيين والاساتذة، والمبتكرين والفنانين والرياضيين، ورجال الاعمال الناجحين، والمطارنة الكبار البارزين، والقادة والرواد الأوائل في مختلف ميادين الثقافة والمعرفة والنضال الوطني .. وهذا يعني بالضرورة، أنك ستحتاج لعشرة كتب، وليس لمقال محدد بمساحة معينة !
وكي أكون واضحاً، فأنا غير معني هنا بتقييم المدينتين، أو ( التفضيل) بينهما، إنما مهمتي تتلخص بعرض (جواهر) هاتين المدينتين بحيادية أمام القراء، لاسيما في جنوب ووسط العراق، كي يعرفوا، ويفخروا بتاريخ شعبهم، سواء التاريخ المسيحي أو المسلم أو الصابئي أو الأيزيدي،ولهم
-أي القراء-حق التفضيل.
وهنا أود أن أذكر ملاحظة مهمة تشكلت عندي بعد أكثر من ربع قرن قضيته في الولايات المتحدة مع الأخوة المسيحيين القادمين من مدن تلكيف والقوش، أو من بقية المدن العراقية، وقد عايشتهم معايشة أخوية في هذه السنوات الخمس وعشرين .. وكنت ولم أزل قريباً منهم جداً، لذلك اطلعت – بحكم المودة والصحبة والرفقة الطويلة التي بيننا- على الكثير من ظواهرهم وبواطنهم، ومشاعرهم، وما يفكر فيه بعضهم، حتى صرت أعرف (التلكيفي) وأميزه عن (القوشي) دون الحاجة الى سؤاله.. وقد تأكدت لي الروح التنافسية بين أبناء المدينتين، لكنها التنافسية التحفيزية، التي تحث على النجاح والإبداع وتحقيق الأفضل والأجمل ، والخالية من مساوئ الحقد والبغضاء. وقد وجدت بشكل قاطع أن الشخص (التلكيفي) أكثر مرونة وتقبلاً وتوافقاً في علاقاته، واكثر انفتاحاً ودبلوماسية واستعداداً للحوار والعمل والنجاح أيضاً، ولا أظن أن لدى (التلكيفي) حساسية تجاه أي أحد مهما كان.. لذلك تجد أغلب أصحابي في أمريكا- وأنا المسلم – من مسيحيي تلكيف..!
كما تأكد لي بحكم العلاقة أن التلكيفي هو الأقرب الى المدنية والحضرية من غيره، ربما لأن تلكيف لم تكن قرية أو منطقة جبلية يوماً ما، إنما كانت بلدة – أي مدينة – منذ تأسيسها قبل الميلاد، لذلك كانت مطمعاً لـ (مغول التتر) و (مغول داعش) وغيرهما من وحوش الخليقة !!
وللحق فقد وجدت في الإنسان التلكيفي حباً للدراسة والتعليم العالي، واصراراً على استكمال تعليم ابنائه مهما كانت الظروف، حتى بات من الطبيعي اليوم أن تجد أغلب الاطباء والمحامين والمهندسين وأساتذة الجامعات والمفكرين، والكوادر العراقية المهمة في الولايات المتحدة من أبناء تلكيف، حتى أن أحد التلكيفيين (وديع دده)، أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي (سيناتور)، وهذا المنصب لم يتحقق لجاليات أوربية قديمة رغم انها أقامت في الولايات المتحدة قبل الجالية العراقية بعشرات السنين بل وبأكثر من قرن.
أما (القوشي) -ابن مدينة الجبل- فهو الذي يمتاز بقيم و مواصفات إنسانية ووطنية خاصة مطبوعة بخصوصية الجبل: أي قوة وبسالة وعناد ثوري، واصرار على مواصلة المسير مهما كان المسير شاقاً.. ويمتاز ابن القوش أيضاً بطيبة قلب، ونقاء، وقدرة فائقة على الصبر والمقاومة، ولا أكشف سراً لو قلت إن أبناء القوش يذكرونني بأبناء (مدينتي الثورة) البواسل، الذين يقتحمون الموت دون أن يرف لهم جفن أو (يهتز لهم شارب) ..
نعم فالشخص القوشي – رجلا كان أو امرأة – يمتاز بالشجاعة، والإباء، وعزة النفس، لذلك لم يكن غريباً أن تجد من أبناء القوش، أسد النضال الوطني، والقائد الشيوعي الفذ، توما توماس ( أبو جوزيف)، وولده الشهيد البطل، منير توما توماس وتجد من ابناء القوش المناضل الياس حنا كوهاري، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي الذي استشهد في معتقلات البعث المجرم في شباط ١٩٦٣، والقائد العسكري لقوات الأنصار، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي سليمان يوسف بوكا ( أبو عامل) والشهيد البطل النحات والرسام فؤاد يلدا، والشهيد سالم ايوب رمو (هيتو)، والشهيد خالد يوسف وتماضر، اللذين اعدما من قبل النظام الصدامي.. والشهيد الأنصاري سعيد عيسى رشو، والشهيد رافد اسحق هيد سلمان داود، والشهيد جبو حيدو حنونا والشهيد خيري ياقو شمو توماس/ شقيق الشهيد طلال، وشقيق الانصاري صباح المعروفين في جبهات القتال في كردستان ولا احد ينكر شجاعة هؤلاء الاخوة الثلاثة في المعارك التي كانوا يشتركون فيها. وكذلك الشهيد جبرائيل بولص رمو، والشهيد نجيب هرمز يوحانا، والشهيدة المناضلة ثائرة فخري بطرس، والشهيد جمال صادق عيسى يلدكو والشهيد حكمت كيكا توما
والشهيد عبد السلام يوسف قلو، والشهيد جبرائيل عبد الاحد ابونا،
والشهيد هرمز يوسف بوكا، والشهيد يوسف جرجيس كريش، والشهيد زهير جرجيس سليمان مقدسي (ساعوره).. ومئات الشهداء الأبطال من الأنصار والمناضلين الشيوعيين الذين قدمتهم مدينة القوش فداءً لحرية العراق وسعادة شعبه.. وطبعاً فأن لكل واحد من هؤلاء الشهداء قصة بطولية مؤثرة، لكن للأسف لاتسمح مساحة المقال بنشر هذه القصص هنا ..!
وللحق، فأن القوش لم تكتف بتقديم الشهداء والمناضلين، بل قدمت أيضاً أعداداً كبيرة من الشخصيات الثقافية والعلمية والفنية المرموقة، أمثال المربي والمناضل كامل صـادق كجّــو ، ودانيال جرجيس توسا – اول طباع عراقي- والعالم الدكتور عزيز بنا، صاحب الخمسة وستين بحثاً مرموقاً في مجال الزراعة. والموسيقار حنا بطرس شاجا، المؤسس الأول للتربية الموسيقية في العراق، ومؤسس معهد الفنون الجميلة بوزارة المعارف عام 1936، فكان أول مدير له، ومدرساً للموسيقى الهوائية فيه.. وهناك شخصيات فنية واعلامية قوشية بارزة في مجالاتها مثل الكاتبة التقدمية الدكتورة كاترين ميخائيل،
والفنان المعروف هيثم يوسف، والفنان التقدمي ماجد ككا والفنان الموهوب عميد اسمرو والكاتب التقدمي نبيل يونس دمان، وغيرهم.. ثمة إحصائية موثقة تذكر أن القوش قدمت فقط خلال نصف القرن الماضي ٥٦ من رجال الدين البارزين، و ٦٩ من أصحاب الشهادات العليا و ٣٥ محامياً، و ١٢٠ طبيباً، و٣٢١ مهندساً، و٢٤٦ كادراً تدريسياً، مع ستين كادراً متفرقاً ..
ورغم أن القوش ناحية تابعة إدارياً لقضاء تلكيف، وأن تلكيف أكبر مساحة ونفوساً من القوش، إلا أن ماقدمته القوش من مآثر ومنجزات حضارية، ومن بطولات وطنية فذة، تجعلها تقف طولاً بطول، وكتفاً لكتف مع شقيقتها مدينة تلكيف.
إن المرء ليحار في روعة وعظمة الكنوز المعرفية والدينية، وبهاء الكفاءات السياسية، والتعليمية، والرياضية، والصحفية، والفنية التي قدمتها على طبق من ذهب، مدينتا تلكيف والقوش للعراق، وللمسيحية أيضاً..
لقد تحدثنا عن روعة وابداع ونضالات القوش، فماذا سنتحدث عن تلكيف، مدينة المبدعين والقادة المناضلين الكبار، وكم صفحة في الجريدة أحتاج لإعطاء هذه المدينة بعض حقها علينا!.
كيف لا، وتلكيف قدمت الشهيد جورج تلو عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ذلك البطل الخالد الذي غنى له الفنان الراحل فؤاد سالم إحدى أجمل أغنياته السياسية، وقدمت تلكيف كذلك مئات الشهداء والمناضلين اليساريين الذين أضاؤوا بدمائهم الطريق أمام الاجيال العراقية والذين لا يسع المجال لذكرهم في هذا المقال المحدود.. إنها تلكيف المعطاء التي قدمت البطريرك الشهير يوسف الثاني، صاحب المؤلفات اللاهوتية والطبية والروحية الفخمة، والكاردينال التاريخي عمانوئيل الثالث دلي، أول بطريرك في تاريخ الكنيسة الكلدانية يتم اختياره كردينالاً في الكنيسة الجامعة.
كما قدمت الكاتبة ماريا تيريزا أسمر، وهي أول صحفية عراقية / مولودة في تلكيف عام 1804، ومؤلفة كتاب (ذكريات أميرة بابلية)..و قدمت تلكيف أيضاً الشخصية القانونية والسياسية الفذة الدكتور حكمت حكيم، وقدمت السيدة هلا يلدا جربو، قاضي المحكمة الجزئية في الولايات المتحدة/ ولاية ميشيغان/ وهي أول قاضية فدرالية كلدانية عراقية.. وقدمت تلكيف (العالم) عدنان جابرو ، الذي شغل منصب رئيس اسالة الماء في العراق سابقاً.. وقدمت تلكيف (الموسوعة اللغوية ) الآرامية الراحل حنا قلابات، فضلاً عن شخصيات أخرى لها وزنها السياسي والنضالي والأكاديمي في الساحة، مثل عامر جميل سكرتير الاتحاد الديمقراطي العراقي السابق في الولايات المتحدة، ونبيل رومايا السكرتير الحالي للإتحاد، والبروفسور شاكر رحيم حنيش أستاذ العلوم السياسية ومؤسس الاتحاد الديمقراطي العراقي في ولاية كاليفورنيا، ونجاح قينايا السكرتير الحالي للاتحاد، والزميل الاعلامي كمال يلدو، والمناضلة (الرابطية) حنية روفا طلية، والشخصية الديمقراطية عادل عقراوي، وغيرهم.. أما في مجال الغناء والموسيقى، فقد قدمت تلكيف أسماء ساطعة، إذ يكفي انها أنجبت لنا الملحن الكبير ناظم نعيم، الذي لحن أروع الأعمال الغنائية العراقية الأصيلة، مثل «طالعة من بيت أبوها» و«ما أريده الغلوبي» و«أحبك وأحب كلمن يحبك» و«فوك النخل» و«يم العيون السود» ومروا علي الحلوين، وغنت له (زوجته) المطربة القديرة نرجس شوقي الحاناً عديدة، كما قدم الحانه للمطربات اللامعات في الخمسينيات أمثال وحيدة خليل ومائدة نزهت وأحلام وهبي وزهور حسين وعفيفة اسكندر، فقد قدم الملحن ناظم نعيم للمطربة أحلام وهبي:،(هاي من الله قسمتي) و (عندي هدية للولف) واغنية الله الله من عيونك،
وقدم لمائدة نزهت في أول أغانيها (الروح محتارة )، وأغنية كالو حلو كل الناس تهواك، وغيرها.
وقدم لفؤاد سالم أغنية أعاتب والعتب سكته، وللمطرب سعدي البياتي أغنية أنا بيدي جرحت ايدي، وللمطرب صلاح عبد الغفور لحن أكثر من اغنية تراثية، ولعفيفة اسكندر لحن قصيدة تعيش أنت وتبقى ، وعشرات الاغاني الاخرى.
كما قدمت تلكيف ابنها الموسيقار (العالمي) رائد جورج، مفخرة الموسيقى العراقية، الذي حظي بلقاء البابا، والعزف في صالة الفاتيكان ضمن قداس خاص أقيم هناك. وطبعاً فإن ليس من السهل على أي موسيقي في العالم أن يحصل على مثل هذا الشرف الكبير ..
وقدمت تلكيف أيضاً الصوت الجميل سوسن النجار .. وغيرهم من المطربين الكلدانيين.
أما في المجال الرياضي فقد قدمت تلكيف الملاكم أكرم مروگي أحد أفضل الملاكمين في تاريخ العراق، ونعيم ربان مؤسس نادي البريد الرياضي.وقدمت اللاعبين المعروفين ثامر يوسف ومناضل داود ومقداد جرجيس وعماد الياس وممتاز يلدو، ومهند لويس، وجستن ميرم وعائد أسو، وغيرهم.
فأي عطاء عظيم هذا الذي قدمته تلكيف، وأي جمال باهر قدمته القوش للعراق والعراقيين ؟.