بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لا أظن ان هناك فخراً وعزاً أبهى من أن تكون صديقاً أو قريباً، أو على الأقل ذا علاقة طيبة مع شخصية وطنية مستقيمة، وقامة نضالية باسقة، مثل شخصية المناضل الشيوعي المعروف، والعامل البروليتاري جاسم عودة (أبو نضال)!
لهذا تجدني أشعر دائماً بفخر عظيم، وفرح وحبور كبيرين، حين أتذكر علاقتي بهذا المناضل الصلب.. خاصة وأن هناك أكثر من رابط، وقاسم مشترك، يجمعني به، بدءاً من أصولنا السومرية الواحدة، ومسقط رأسينا المشترك في محافظة العمارة، مروراً بوحدة توجهاتنا الفكرية والسياسية والعقائدية والطبقية، فضلاً عن العلاقة السكنية التي جمعت أسرتينا، سواء في (مناطق الصرائف)، أو في مدينة الثورة، ناهيك من العلاقة الحميمة الطيبة التي تجمعني وأشقائي معه ومع أشقائه، وأولاده الأحبة كريم وغالب.. ولعل رابطة المصير والحلم المشترك هي عندي أهم الروابط التي تجمعني بأبي نضال ..
ورغم أن الرجل يكبرني بسبعة عشر عاماً، إلا أن ذلك لم يقف مانعاً في أن أتشرف بصداقته وأنال مودته، رغم أن الرجل قضى أكثر من نصف عمره في السجون والمعتقلات والكفاح والإختفاء القسري، الذي حرم أسرته ورفاقه وزملاءه من روعة وجوده، وأريج وداده، وعشرته الحلوة، العطرة، عشرات السنوات..
ولا أكشف سراً لو قلت ان الحصول على صداقة أبي نضال لم يكن أمراً سهلاً .. فالرجل الذي لديه آلاف المعارف، لم يكن يمنح ثقته، وصداقته إلا لمن يثق بهم جداً..فلقد علمته التجارب المرة، وقسوة السجون، ومعاناة ظروف النضال، والمطاردات والملاحقات، و (وشايات ) بعض الضعفاء، أن يكون دقيقاً جداً في اختيار أصحابه وأهل ثقته، لذلك تجد حلقة أصدقائه القريبة، ضيقة، لا تتسع لأكثر من الذين يثق بهم..
ولعل الكثير من القراء ينتظر مني الحديث عما أنجزه هذا الرجل، أو عن بعض ما في تاريخه النضالي الوطني.. لذلك أود أن أبدأ حديثي عنه من حيث تبدأ ينابيع هذا النهر المعطاء .. أي من ولادته في العام ١٩٣٤، وانتقال أسرته الى العاصمة بغداد في العام ١٩٥٠ هرباً من الظلم والجور، لتسكن في صرائف الشاكرية.. وهناك، بين مرارة الحياة، وصعوبة العيش في أكواخ وصرائف لا يتوفر فيها الماء الصالح للشرب، ولا الكهرباء، أو الدواء، وبين ظهور الأفكار الوطنية والتقدمية التي راح يبشر بها بعض الشيوعيين في الشاكرية والمناطق الفقيرة، انتمى الفتى جاسم عودة للحزب الشيوعي العراقي.. وقد اتخذ لنضاله مسارين: الأول مهني، سلكه حين انخرط مبكراً في العمل بمعمل (باتا)، الذي كان يضم آنذاك حشداً من العمال الشيوعيين، بحيث أصبح هذا المعمل واحداً من قلاع نضالات الطبقة العاملة في بغداد.. أما الطريق الثاني، فقد كان رياضياً، حيث اتخذ جاسم عودة المسار الرياضي المتمثل بتأسيس فريق منتخب الشاكرية الكروي في العام ١٩٥٣، وهو أول فريق كروي في تلك المنطقة، وقد ضم وقتها خيرة اللاعبين في الشاكرية، والعاصمة و(الميزرة ) وخلف السدة.
ومع تأسيس هذا الفريق، افتتح جاسم عودة أيضاً مقهى في الشاكرية ليكون متنفساً للشباب الوطني التقدمي، وهكذا مضى مسرعاً في طريق النضال السياسي بفرعيه الرياضي والعمالي معاً.. علماً بان (العامل ) جاسم عودة، وبسبب ذكائه، واخلاصه لمهنته، أصبح فيما بعد كادراً فنياً بارزاً في معمل (باتا)، رغم السنوات الطويلة التي قضاها في المعتقلات والسجون..
إن اهم منجزات جاسم عودة برأيي الشخصي، هي قيادته لعشرات الشباب صوب طريق الحقيقة والنور والجمال، واستطاع بوعيه ونشاطه، رغم صعوبة الظروف آنذاك، من أن يبعدهم عن السير في طرق غير سليمة، فهو لم يؤثر في أشقائه وأبنائه فحسب، إنما أثر أيضاً في بيئة شعبية كاملة، وفي محيط واسع ومعقد أيضاً.. ولك عزيزي القارئ أن تتخيل بيئة الصرائف المظلمة، المبتلية آنذاك بالأمية والجهل والخرافة، وبكل ما تنتجه ظروف العوز والفقر من كوارث تدفع الشباب الى سلوك طرق يكون ثمنها قاسياً وفادحاً، لكن هذا الرجل الشيوعي لم يترك لخناجر الزمن المسمومة فرصة النيل من أبناء طبقته وجلدته، فاحتضنهم – رغم صغر سنه، وقسوة ظروفه – ماشياً بهم ومعهم في طريق الوطنية، والرياضة السامية.. لذلك لم ينس له المجرمون عمله هذا.. فحاربوه حرباً شعواء، دفع ثمنها غالياً من ألق شبابه في المعتقلات والسجون..
وفي تلك الظروف أيضاً، أسس جاسم عودة فريق (اتحاد فيوري) بنفس لاعبي منتخب الشاكرية مع بعض اللاعبين الجدد، وهو الفريق الذي سيصبح بعد سنوات واحداً من أفضل فرق بغداد الشعبية، حتى أن رئيس فريق أمجاد الشيخلية، حسن الشيخلي (أبو شيبة)أجاب يوماً على سؤال لأحد مناصري فريقهم، بعد خسارتهم أمام اتحاد فيوري على ملعب (العوينة) في نهاية ستينيات القرن الماضي قائلاً: أقسم بشرفي أن فريق اتحاد فيوري بهذه التشكيلة يستطيع الفوز على منتخب العراق بدون مشقة، وعلى أي ملعب .. !وللعلم أيضاً، فإن فريق اتحاد فيوري الذي انتقل الى مدينة الثورة بعد إزالة الصرائف، وبعد اعتقال جاسم عودة، قد واصل المسير تحت اشراف وادارة المدربين القديرين المرحوم عبد الواحد حاتم، والكابتن كاظم صدام – الشقيق الأكبر للنجوم كريم ونعيم ورحيم صدام – وقد ساهم هذان المدربان الكبيران – بالتناوب- مساهمة فاعلة في تقدم فريق اتحاد فيوري ..
وعلى ذكر الإعتقال، فقد بدأت مرحلة الاعتقالات والسجون مع المناضل جاسم عودة، منذ أيام (الشاكرية)، واستمرت في رحلة طويلة عبر محطات مختلفة ومتنوعة.. سرقت منه أحلى سنوات عمره، وكان اعتقاله وتوقيفه في معتقل الفضيلية خلف السدة، وهو لم يزل فتى غضاً، أول مشواره الطويل مع السجون،وكان الحبس الثاني له في سجن الحلة، حيث أخذ منه سنوات عديدة.. لكن السجن الأطول والأصعب كان في (نگرة السلمان) الرهيب، الذي وصله مع رفاقه عبر (قطار الموت) الشهير في العام ١٩٦٣، والذي قضى فيه سبع سنوات تقريباً.. ناهيك من معتقلات (قصر النهاية)، والبصرة، و( أبو غريب) .. ولسجن ( أبو غريب) قصة طريفة رغم مرارتها، فقد كان الجلف المعتوه (خير الله طلفاح) يكره جاسم عودة، بسبب شيوعيته، لذلك كان يأمر بحجزه ستة أشهر في سجن أبي غريب دون أي ذنب أو حتى دعوى قضائية، وقد تكرر هذا الحجز أكثر من مرة، وبات أبو نضال يمضي لـ(أبي غريب) كلما تذكره المعتوه طلفاح ..!
ثمة محطات مهمة في حياة جاسم عودة، ذلك المناضل الصلب الذي امتحنته الظروف، ونجح فيها نجاحاً وطنياً ومبدئياً باهراً، حاله حال الكثير من رفاقه المناضلين الشيوعيين الذين صمدوا صموداً اسطورياً أمام الجلادين في زنازين الفاشية البعثية.. فهو مثلاً لم يعترف يوماً على أي رفيق، ولم يضعف، او ينكسر قط، كما كان الأشد رفضاً لفكرة تقديم (البراءة) من الحزب الشيوعي حتى لو كانت تكتيكاً سياسياً مؤقتاً، بل كان له موقف شديد جداً من (المتبرئين) آنذاك، حتى أنه قام أمام الجميع بتقبيل جبين ورأس الشاعر مظفر النواب عندما كان مسجوناً معه في سجن الحلة، شاكراً للشاعر الكبير موقفه الرافض المعروف في قصيدة (البراءة) الشهيرة.
وثمة مواقف تاريخية عديدة، مسجلة وموثقة لأبي نضال، لن أعرضها في هذا المقال، إذ ربما يحرج ذكرها بعض المعارف ..!!
لكن هناك موقفاً بطولياً لأبي نضال يجب ان يعرفه أبناء الجيل الجديد من المناضلين.. إذ بعد انقلاب شباط الأسود العام ١٩٦٣ نجح أبو نضال من الإفلات والهرب الى إيران الشاه بعد ارتدائه زي القساوسة المسيحيين .. وبعد أيام من وصوله، كشفه أحد عملاء السافاك في عربستان بواسطة الوشم، أو ( الدگة) الواضحة في يمين جبينه، وهي ميزة وخصوصية جنوبية صرفة..فاعتقله جهاز الأمن الشاهنشاهي، لكن اعتقاله لم يطل في عربستان حتى تمكن من الهرب، سالكاً طرق البساتين والأنهار والبراري غير المعبدة، فوصل البصرة بعد أن مشى يوماً وليلة دون توقف، قاطعاً المسافة ما بين سباحة ومشي متواصلين، في ظل ظلام دامس، ورعب تلك الطرق ليلاً..
وفي البصرة تمكن أبو نضال من التخفي عدة أشهر، لكنه اعتقل في بغداد قبل شهر تموز من عام ١٩٦٣، وأودع سجن رقم واحد، لينقل بعدها بقطار الموت الى نگرة السلمان الصحراوي.
ثمة موضوع حدث معي قبل أن يفجعنا أبو نضال في رحيله المصادف 2011/11/16، حين كنت جالساً مع بعض الأصدقاء، وقد جاء ذكر جاسم عودة في تلك الجلسة بكل الحب والخير لكنني فوجئت بأحد الحضور وهو يقول معقباً: صحيح إن جاسم عودة مناضل فذ، لكن (خشمه يابس وعالي شويه)،لذلك ليس له أصدقاء كثر ..!
لم يعجبني تعقيبه هذا، بل استفزني، فأردت أن أحرجه – وأنا أعرف ان عائلة هذا الشخص، بعثية- فقلت له: نعم لقد كان خشم جاسم عودة يابساً وعالياً كثيراً – مو شويه بس- ولكن على البعثيين والجلادين فقط وليس على الناس الطيبين ..!
فضحك، وقال: لكني لست بعثياً كما يعرف الاخوة ..!
قلت له: إذا لم تكن بعثياً فعلاً، فأنت إذاً مخطئ .. لأن خشم جاسم عودة لم يكن يابساً على الطيبين.. كما أنه ودود ومحبوب ولديه عدداً وفيراً من الأصدقاء والأحبة الطيبين الذين يعرفونه جيداً، ويحبونه كثيراً.. !
واكملت حديثي بقولي له: هل تعرف مثلاً المناضل كاظم مهلهل (أبو ثائر)، رفيق جاسم عودة في محنة الصمود والاعتقال في ( قصر النهاية) ؟!
فقال: نعم نعم أعرفه ..
قلت: إذاً إسأله عن تواضع أبي نضال وطيبته ومودته وسماحته، ووسامته، وروعة أخلاقه، وتضحيات عائلته، التي بدأت بإعدام شقيقه المناضل الشيوعي هاشم عودة، وسجن واعتقال ومطاردة اخوته، واولاده، لاسيما ولده غالب الذي ذاق مرارة الاعتقال والملاحقة.؟
قال: انا لم أتحدث عن تضحيات عائلته، إنما تحدثت فقط عن عدم مرونته، وقلة اصدقائه !
قلت: أصدقاؤه؟
هل تعرف المناضلين هاشم جونه العبودي، وعبدالله الحاج مزبان أبو نجم، وزياره السويدي ابو فريد، وابو سيناء، وابو حكيم البرادعي، وكاظم مچيسر، وحسين عطيه الساعدي صاحب المكتبة في كلية الطب بجامعة بغداد- وهل تعرف المناضل محسن فنجان ابو الفنان الجميل مالك محسن، وهل تعرف جواد كاظم ابو تحسين،
والمرحوم محسن عمشه الربيعي في قطاع ٣٥، وهل تعرف المناضل حسن ضمد شقيق المناضل الشيوعي الشهير فعل ضمد ووالد الاعلامي
المعروف حسام حسن، وهل تعرف ايضاً المضمد الشيوعي ( ابو حكيم ) البهادلي، وكذلك وحيد حسن، وماذي ابو سلام، وحمود أبو عادل، واسماعيل البهادلي أبو علي وغيرهم؟.. إن كل هؤلاء الاشخاص الطيبين هم أصدقاء جاسم عودة.
فنهض الرجل وقال: أعتذر جداً .. والله ماكنت أعرف ذلك قطعاً، لقد كنت أظنه قليل الأصدقاء ليس إلا!
قلت له: وللعلم، فأن هذا العدد هو الذي أعرفه أنا فقط، فكم ياترى من أصدقائه الآخرين يعرفهم أبناؤه وذووه والمقربون؟
وقبل أن أنهي حديثي، قلت له:كيف تتهم شخصاً شيوعياً بقلة الأصدقاء، إذ متى – بربك- رأيت شيوعياً واحداً في الكون، لا يحظى بعلاقات طيبة، وصداقات واسعة جداً، وهل رأيت في حياتك شيوعياً عراقياً واحداً يرفع (خشمه) على الناس الطيبين، أم كان خشمه عالياً فقط على الطغاة والعملاء والجلادين ؟