بقلم: د. مظهر محمد صالح ..
قبل ان نعشق السلطة لننظر اولاً ان هناك مسارًا طويلاً للاستبداد تحيطه مكاتب بيروقراطية توفر الوعي التام في موجة من غلبة العبث وهوس التحري عن الظفر بمصادر القوة والسطوة والنفوذ والمال . ثم تترك السلطة عواقبها الوخيمة التي تتمثل للبعض وكانها الحقيقة الوحيدة الراسخة للسير في الاستبداد حتى دون وعي عندما تفقد تواضعها وتسير نحو عبوديتها.
هالني الزعيم اليساري الثوري ( خوسي موخيكا ) الرجل الذي عد افقر رئيس في العالم وحكم الاوروغواي لسنوات قليلة ، عندما اسس متلازمة الاحرار التي قوامها السلطة والتواضع بالقول :
(( السلطة لاتغير الاشخاص هي فقط تكشف حقيقتهم …وان من يعشق المال لامكان له في السياسة)).
فبين ذلك الصبي بائع الورد من ارياف مونتفيديو وهو الرئيس خوسي موخيكا وبين تلك الطفلة راعية الماعز في جبال الريف المغربية الوزيرة نجاة بلقاسم ، تتماسك واحة من الارتياح وارض تتفتح فيها ازهار من الرغبات الانسانية الدفينة تلتحم فيها (السلطة بالتواضع من دون مال ) ليشيدوا معاً واحة الحرية و متلازمة الاحرار .
انها نجاة بلقاسم الوزيرة التي اصابها الصمت والكبرياء وهي تجلس خلف طاولتها من دون غرور بعد انتهاء لقائها برجل اربعيني العمر تحمل قسمات وجهه حالة من التذمر الشديد و هو يعمل مدرساً للموسيقى في واحدة من مدارس العاصمة الفرنسية باريس، اذ غادرها وهو يردد الدنيا لاتهمنا، كما اننا لا نهم الدنيا، فلاطائل من اصلاح الحال.حزنت الوزيرة قليلا لفشلها في اقناع ذلك المعلم في تلبية مطالبه المخالفة للانظمة التعليمية الفرنسية، ثم استدركت من فورها لتجد ان نشاطها قد بلغ اقصى مداه في ذلك الصباح، واكتسى وجهها الطفولي غبطة مستقرة وهي تتطلع على اخاديد مكتبتها و تقول في سرها: ان الذي جعل من تاريخ الانسانية مقبرة فاخرة تزدان بها رفوف المكتبات لا يضن عليها بلحظات مضمخة بالمسرة.نظرت نجاة بلقاسم الى آخر صورة فوتوغرافية التقطت لها في منطقة جبال الريف المغربية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي وهي ترعى فصيلا من الماعز و تتطلع الى طريق مستقيم تأكل منه لقمتها. الا ان الصورة الفوتوغرافية التي زينت جدران مكتبها لم تتحدث عن ماضي طفولتها فحسب بل كانت تنطق بان الشمس لن تغرب بعد وان امامها ليلا طويلا وان عصا الرعي التي كانت تمسك بها هي اول خيط ذهبي لرسم جدران المستقبل . نهضت الوزيرة عند سماعها شيئاً من الهدوء هانئة بالخلاص من رقاد جلوس متحجر خلف الطاولة فتطلعت من النافذة الى زرقة السماء وابتسامة الصباح ،ثم فركت يديها حبورا بالامل الوشيك لتطور التعليم الرقمي في بلادها لتستدير الى خزانة الكتب المجاورة وعادت حاملة عموداً متوسطاً من الكتب ،واخذت تتصفح كتابا تلو الأخر وكانها تهمس في نفسها قائلة: ان وصولي الى منصب وزيرة التعليم في فرنسا هو حق، ولاشك انه خير لي ان انسى الماضي بعد ان اخذت مكانتي في قيادة التعليم في هذه البلاد.وسرعان ما اشتد بصرها على كتاب في اجتماعيات علم الاقتصاد السياسي واخذت تسجل من فورها هامشين على حافات مقدمته، كان الهامش الاول يقول :ولدت في جبال الريف المغربية وهاجرت برفقة والدتي الى فرنسا بعدما كنت ارعى فصيلا من الماعز . واكملت دراستي في اقتصاديات علم الاجتماع والقانون ولم ادعى الغنى او الثراء عندما اصبحت وزيرة. اما الهامش الثاني،فقد كتبت فيه انطباعاتها عن محاورتها لمدرس الموسيقي الذي زارها في الصباح الباكر وعرض عليها طلبا بحصر دروس الموسيقى بالمدارس الخاصة او الاهلية وكان جوابها كلا، فالتعليم الابتدائي والثانوي الذي يُقدم عبر نظام السوق سيقتصر على مجموعة صغيرة لايمكنها ان تكتشف المهارات والمواهب في المجتمع الاكبر .وسيظل التعليم الاهلي قاصراً وغير كفوء، فكم من الاذكياء ممن يتوقع لهم ان يكونوا من العلماء والمهندسين والفنانين والموسيقيين مازالوا خارج النظام التعليمي في العالم الثالث.
ختاما، انتهت نجاة بلقاسم، بعبارة جميلة مفادها: بغية ايجاد شخص واحد مثل (البرت انشتاين) فانك ينبغي ان تعلم الملايين في المرحلة الابتدائية تعليما رسميا مجانياً لتجد نظيراً له. والا كيف اصبحت انا الراعية وزيرة…؟؟ يبقى الجواب : ان السلطة والتواضع يصنعان التعليم فهو خيار الحرية في متلازمة الاحرار.