بقلم : فالح حسون الدراجي ..
لاشك أن المقالين اللذين كتبتهما ونشرتهما في جريدة (الحقيقة)، واللذين سردت فيهما حكايتي مع عقيد الاستخبارات حامد عبد الكريم السامرائي، قد نالا اهتماماً ملحوظاً من قبل الكثير من العراقيين، بل وحظيا بقراءات واسعة، وتعليقات وكلمات حب وثناء، حتى أن (السينارست) الكبير، حامد المالكي كتب لي يقول: لقد أبكيتني يا فالح.. كما ان الصديق ابن مدينة الثورة البار، الناشط المدني كريم جسر، اتصل بي باكياً، وهو يقول: لماذا تصر على أن تبكينا يا ابا حسون.. ولا انسى كلمات ذلك المخرج العراقي المعروف الذي اتصل بي معلناً عن استعداده لتحويل قصة الشهيد حامد عبد الكريم السامرائي الى فيلم روائي كبير، في حال توفر جهة منتجة، مثل مؤسسة الشهداء، فتتبنى إنتاج هذا الفيلم، وإذا – غلّست – مؤسسة الشهداء عن التفكير في تمويل هذا المشروع الوطني، فأتمنى – والكلام للمخرج الكبير الذي طلب عدم الكشف عن هويته في الوقت الحالي-أن تقوم اية شركة فنية، أو حتى تجارية من شركات القطاع الخاص لتبني هذا المشروع، أو أن يبادر أهالي سامراء الكرام بتمويل هذا الفيلم الذي سيؤرخ لبطولات أبناء مدينتهم البواسل الذين تصدوا لأشرس نظام قمعي دكتاتوري في التاريخ الحديث “..
كما كانت الرسالة التي بعثها لي المناضل الوطني الفريق نجيب الصالحي، والتي أكد فيها كل ما كتبته عن الشهيد حامد السامرائي، ملخصاً ذلك بقوله: (أعرف الرجل معرفة جيدة، فقد كنا منذ منتصف السبعينيات حتى نهايتها، ضابطين في لواء المشاة الآلي 24 في محافظة الكوت، وكان الرجل وطنياً، نظيفاً جداً).
ولعل الشيء الذي أفرحني أن عدد المواقع والبيجات التي نقلت المقالين عن جريدة الحقيقة، قد تجاوز المئة وعدد القراءات فيها على حد علمي، قد تجاوز العشرين ألف قراءة خلال ثلاثة أيام، وهو رقم كبير في قراءة مقال سياسي.
ولكي تعرف عائلة الشهيد حامد عبد الكريم، ويعرف أبناء سامراء حجم تعاطف اخوتهم العراقيين معهم، سأخصص مقالي القادم لنشر عدد كبير من رسائل الحب والتقدير للشهيد حامد ولعائلته الكريمة..
أما الآن فسأتحدث عن رسالة مهمة صارت مفتاحاً لمقال اليوم.. والرسالة وصلتني من الصديق أنور رستم، وقد قال فيها: ” شكراً لك صديقي على ما كتبت خصوصاً مقالتيك الاخيرتين، وكم تمنيت لو ذكرت فيهما كيف جئت الى الفوج الذي فيه حامد السامرائي ضابط الاستخبارات، ولماذا تعاطف معك وهو البعثي وأنت الشيوعي اضافة الى أنك من أهل العمارة وهو من سامراء، ولا أريد أن أقول: وأنت شيعي وهو سني، لأني أكره هذا الفصل الطائفي، لكني أستطيع القول إنكما مختلفان، فلا تشابه او قرابة أو معرفة بينكما”؟!
فأجبت صديقي انور ( أبو صباح) بكلمات قليلة قلت له فيها: ” أظن أن روعة الرجل تكمن هنا، فقد وقف وتعاطف معي وحماني من انياب الذئاب حينما كنت شاباً يافعاً.. دون أية واسطة أو وساطة .. إنها الوطنية والإنسانية والقيم العليا التي أكدها بتصديه للمجرم صدام حسين، وكلفته حياته الغالية.. لقد كان يعرف أني بريء تماماً مما كتب عني، وقد قالها لي نصاً عندما ذهبت اليه في يوم تسريحي لأشكره وأودعه، حيث قال لي: لقد أدركت تماماً أنك لم تمارس أي نشاط سياسي في الجيش، وإن قضيتك شخصية وعدوانية.. “!!
أما الآن وبعد كل هذه السنين، دعوني أشرح للصديق أنور، وللقراء قصة مجيئي للفوج الأول لواء المشاة الآلي 24 :
في شهر تشرين الثاني من العام 1976 التحقت بالخدمة العسكرية كجندي مكلف، نسبت لكتيبة مخابرة الفرقة المدرعة العاشرة في معسكر التاجي..
كانت الظروف السياسية تنذر بالإنفجار، والسلطة البعثية تشدد خناقها على قواعد الحزب الشيوعي، فراحت تراقب وتعتقل العناصر التقدمية أو المتعاطفة مع الفكر الشيوعي لاسيما في القوات المسلحة، سواء أكانت هذه العناصر تؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية كجنود مكلفين، أو المتطوعين في الجيش والشرطة.. وقبل أن ألتحق بالعسكرية بفترة قصيرة، شنت السلطات حملة اعتقالات، شملت عدداً من الأصدقاء، بينهم صديقي الشاعر الكبير كريم العراقي الذي اختفى لأكثر من شهر في أقبية الاستخبارات العسكرية.. وقد خرج كريم محطماً نفسياً وبدنياً من شدة التعذيب.. وقتها أمرت قيادة الحزب الشيوعي، بإيقاف أي نشاط حزبي مع العناصر العسكرية، رغم ان الاجتماعات كانت فردية و(خاصة)، فكان قرار التجميد يشملني أسوة بكل العسكريين المنتمين للحزب وقتها.. ورغم ذلك فقد كنت حذراً جداً، حتى أني سعيت الى النقل من كتيبة المخابرة، والتي مقرها في معسكر التاجي ببغداد، بسبب العيون الأمنية التي كانت مسلطة عليها.. وهنا خطر في بالي أن أعود لممارسة كرة القدم، وألعب في فريق الفرقة العاشرة، التي كانت كتيبتي إحدى وحداتها، لأتخلص من الاحتكاك بالجنود في الثكنات، والابتعاد عن المشاكل، رغم اعتزالي اللعبة منذ اربع سنوات، وكان فريق الفرقة العاشرة بكرة القدم يعد وقتها من أحسن الفرق العسكرية في العراق.
ولعل من حسن الصدف ان يكون الصديق العزيز كاظم صدام – الشقيق الأكبر لنجوم المنتخب كريم ونعيم ورحيم، مدرباً لفريق الفرقة العاشرة.
وحين عرضت على كاظم فكرة انتدابي الى الفريق، لم يوافق بالوهلة الأولى.. لكن صديقي (أبو جواد ) أطال الله في عمره، وافق على ضمي للفريق بعد أن حكيت له قصة الاعتقالات السائدة، وخشية أن أعتقل أيضاً، وهكذا تم انتدابي لفريق الفرقة العاشرة ( قوات نصر)، وانتظمت في تدريبات الفريق في ملعب الادارة المحلية بالمنصور.
وفي وسط المناخ الكروي الجميل، وفي تلك الأيام العزيزة التي كنت فيها مع زملائي اللاعبين، حدث ما لم يكن في الحسبان، حين أقيمت عام 1977 بطولة خاصة بالفرق العسكرية التي تلعب في دوري الدرجة الممتازة، سميت باسم (بطولة المكتب العسكري لحزب البعث)، وقد تأهل فريقنا لخوض المباراة النهائية، بعد أن فاز على فريق القوة الجوية الذي كان يضم لاعبين كباراً مثل كاظم وعل وناظم شاكر وغيرهما وستكون المباراة النهائية في شهر تموز أمام فريق الحرس الجمهوري (الذي تشكل حديثاً، وطُعِّم بعدد من لاعبي منتخب الشباب الفائز ببطولة آسيا) ..
وقد أخبرنا المسؤولون أن عزت الدوري، الذي كان (نائب مسؤول المكتب العسكري لحزب البعث) سيرعى هذه المباراة التي تقام في ملعب الشعب الدولي! كما أنها ستنقل من التلفزيون. ولأهمية المباراة استدعينا في ظهيرة يوم 11 تموز – أي قبل المباراة النهائية باسبوع واحد، الى مقر الفرقة في معسكر التاجي، فحضرنا جميعاً بالملابس الرياضية، حيث كان عددنا يقدر بحوالي 200 رياضي يمثلون كل الالعاب الرياضية في الفرقة..
وقفنا في الساحة المقابلة لمقر القيادة، على شكل صفوف، ننتظر في العراء وتحت لهيب شمس تموز قدوم قائد الفرقة لأكثر من ساعة، ونحن في قلق وخوف كبيرين، إذ لم يكن أحد يعرف ماذا يريدون، وماذا سيحصل لنا، حتى ظهر العميد الركن هزاع فيزي الهزاع، قائد الفرقة العاشرة، ومعه ضباط أركانه. وبعد أداء التحية، تحدث الينا الهزاع عن المباراة النهائية واهميتها، وقال بالحرف الواحد: لا اريد غير الفوز، لقد راهنت قائد الحرس الجمهوري على فوزنا بهذه المباراة، ويجب أن نفوز عليهم- علماً أن القائد هزاع فيزي الهزاع، هو قريب لصدام وأحد أفراد عشيرته..!
وبعد ان أكمل حديثه عن المباراة، استدار القائد الى العقيد الركن علي مرهون ضابط استخبارات
الفرقة وسأله قائلاً بلهجته التكريتية: (هذا شسمو )؟
فأجابه مرهون قائلاً: فالح حسون الدراجي سيدي !
فما أن سمعت اسمي حتى سقط قلبي بين قدمي خوفاً، لاسيما وأن (الألقاب) لا تستخدم في الجيش، مما يعني أنهم اكتشفوا أمر شيوعيتي..!فصاح الهزاع: (وينو هذا الدراجي)؟!
فخرجت، وقلت بصوت مخنوق: نعم سيدي ..!
فنظر لي وقال مستصغراً: (انت يول فالح الدراجي)؟
قلت : نعم سيدي !
فالتفت الى ضابط العاب الفرقة العقيد باسم الربيعي – وهو من أهالي العمارة، وقد كان بدرجة متقدمة في حزب البعث، لكنه للأمانة رجل شجاع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى- وقال له: أهذا هو فالح الدراجي يا باسم ؟ فاجابه الربيعي بالإيجاب!وهنا هبط القائد من الدكة التي كان يقف عليها وتقدم نحوي – وقد كنت وقتها نحيلاً صغير الجسم وقال بسخرية: ( يول أشو كتاب التقارير سووك علينا كاسترو، وانت بگد البع…)!
ثم قال متسائلاً: ( يول انت شيوعي)؟
قلت: لاسيدي مو شيوعي. فتركني وهو يقول لضابط الاستخبارات ضاحكاً: شوف عقيد علي هذا بس حققوا معاه، وانقلوه اليوم الى لواء 24 ..!
وهنا، وللتاريخ أذكر هذا الموقف الشجاع للاعب عادل علوان، أحد لاعبي فريقنا البارزين، حيث انبرى قائلاً: سيدي القائد، جنابك طلبت قبل قليل أن نفوز على فريق الحرس الجمهوري، وهو فريق ممتلئ بالنجوم، وفي نفس الوقت تريد تنقل احسن لاعب في فريقنا.. سيدي، إن فالح حسون هو اللاعب الذي نعتمد عليه بشكل رئيسي ..!
فاستغرب القائد من كلام عادل، وقال له وهو يؤشر بعصاه نحوي: يعني على هذا يعتمد فريقكم، عجل وين صار ضرغام الحيدري وحسن سداوي ولطيف لبيب وبقية اللاعبين الدوليين العدكم؟!
وقبل أن ينهي القائد سؤاله، خرج ايضاً اللاعب الدولي ضرغام الحيدري قائلاً: نعم سيدي، أشهد أن فريقنا بدون الأخ فالح حسون لن يحقق الفوز أمام الحرس الجمهوري!
لم يصدق القائد ما سمعه من كلام، فوجه السؤال الى ضابط الألعاب باسم الربيعي، والمدرب كاظم صدام، وكان جوابهما عني مؤيداً لرأي اللاعبين عادل وضرغام..
وهنا صمت القائد قليلاً، وقال: مو مشكلة، (خللوا) كاسترو يلعب هاي اللعبة، وبعدها عود انقلوه..!
انتهى اللقاء بالقائد عند هذا الحد، وهنا بات لزاماً عليّ أن اتدرب بقوة خلال الاسبوع المتبقي قبل المباراة، بل صرت اتدرب ليلاً ونهاراً، كما بات على المدرب أن يشركني في هذه المباراة، رغم أني كنت (سكراب)،ولم اشارك من قبل في أية مباراة مع الفريق، فقد كنت (الاحتياط العاشر)، لكن للضرورة أحكاماً ..! ومن حسن حظنا جميعاً، أننا فزنا على الحرس الجمهوري بثلاثة اهداف، ولعبت المباراة كلها، بل وكنت أحد نجومها ايضاً ، وقد كافأنا القائد بهدايا ومبالغ مالية، كان أثمنها حين همس شخصياً بأذني قائلاً: شوف يا كاسترو .. راح اعفيك من النقل، فأنت لاعب فاخر !، وفعلاً فقد اُلغي نقلي، وبقيت في فريق الفرقة.
لكن بعد شهور قليلة، نقل قائد الفرقة الهزاع، وجاء بديله، وعلى إثر ذلك، استدعاني نائب الضابط ياسين أبو طه المسؤول الاداري عن الفريق، وهو انسان بسيط وطيب / من أهالي الصويرة / ليخبرني أن كتاب نقلي في جيبه، وأمامي خياران، إما ان أستلم كتاب نقلي الآن، او أن أوافق على الانتساب لحزب البعث ! وبدون أن أنطق كلمة واحدة مددت يدي اليه، وقلت: اعطني كتاب نقلي ..!
سلمني كتاب النقل وهو يقول: والله العظيم كنت أتوقع منك ذلك ..!
بعد يومين التحقت بوحدتي ( فوج الاول لواء المشاة الآلي 24 )، وكان ضابط استخباراتها آنذاك النقيب حامد عبد الكريم السامرائي، الذي أرسل في طلبي في اليوم الثالث لالتحاقي بالفوج، وقد كانت اضبارتي الأمنية قد وصلت اليه قبلي.. وبعد دقائق من لقائي به، قال لي بالحرف الواحد: أنا متأكد أن خلف كل هذه الاضبارة (شغلة) شخصية وكل ما اريده منك أن تبرر اعتقادي، وتؤكد ثقتي بك، وتبتعد عن كل ما يجلب لك المشاكل أو الشك .. فكنت عند ثقته وحسن ظنه، والتزمت بوعدي له..
إن على ما جاء في هذا المقال شهوداً يقدر عددهم بالمئات، ومن حسن حظي أن أغلبهم أحياء يرزقون..