بقلم: فالح حسون الدراجي ..
ونحن ننتظر دورنا في عيادة طبيب العيون، في مدينة سان ديغو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، سألني (عجوز) أمريكي، كان يجلس الى جانبي، عن موطني الأصلي- وبالمناسبة، فالسؤال في امريكا عن الموطن الأصلي لأي شخص، أمر طبيعي جداً .. إذ عادة ما يأتي السؤال الاول على ألسنة الناس في الولايات المتحدة الأمريكية عن البلد الأصلي، والسبب في رأيي أن جميع الامريكيين قدموا كمهاجرين من بلدان أخرى، باستثناء الهنود الحمر، الذين هم وحدهم من سكان أمريكا الأصليين – لذلك لم اجد غضاضة في أن أجيبه عن سؤاله.. وما ان عرف أني عراقي، حتى راح يسألني عن الاوضاع المعيشية والامنية في العراق.
ومن حسن الصدف، ان يكون ولدي (علي) معي يساعدني في الاجابة على الاسئلة التي يصعب عليّ الاجابة عنها..
وفي سياق الحديث، سألني هذا المواطن الأمريكي (الابيض) عن احوال المتقاعدين في العراق، وعن الامتيازات التي يوفرها لهم قانون التقاعد، لاسيما وان العراق بلد غني، يطفو على بحار من النفط والخيرات.
ضحكت وقلت في سري : يا نفط.. يا تقاعد، يابطيخ ! (ما يدري ضمد بصواب ضيدان) ..!
وآه لو علم هذا الأمريكي البطران بحال المتقاعد العراقي (المگرود)، إذ قطعاً ما كان سيسالني مثل هذا السؤال، وأيضاً لما صدق جوابي حتى لو أقسمت بكل المقدسات!.
لذا قررت في قرارة نفسي أن (ألعب) معه، وأتسلى وإياه بوقت الانتظار الطويل والممل ..
فقلت لجليسي الأمريكي:
أنت إسأل يامستر ، وأنا أجيبك عن كل سؤال..
فقال: OK
اولاً.. كم يتقاضى المتقاعد العراقي شهرياً كمعدل عام ؟
قلت : قبل أن اجيبك عن راتب المتقاعد العراقي، اسألك إن كنت متقاعداً أم لا ..؟
فقال : انا متقاعد، قضيت ثلاثا وثلاثين سنة في عملي مهندساً زراعياً ..
قلت له: وكم تتقاضى راتباً تقاعدياً في الشهر ؟
قال: اتقاضى أكثر من ثلاثة آلاف دولار شهرياً ..
قلت له: أظن أن راتبك التقاعدي قليل قياساً براتب أي متقاعد عراقي.. !
ثم اكملت وقلت: إن الراتب التقاعدي لأي عامل بسيط اكثر من راتبك بكثير ..!
فنظر، وقال بثقة واضحة: وأنا توقعت ذلك ..؟!
ثم خلع نظارته، ومسح عينيه بورقة (كلينكس) تناولها من العلبة، وقال:
وما هو مستوى الخدمات الطبية والصحية التي يوفرها قانون التقاعد العراقي، للمتقاعدين؟!
قلت له: اخبرني اولاً عن نصيب المتقاعد الامريكي من الرعاية الطبية والصحية المقدمة له؟
قال: يتمتع المتقاعد الامريكي بما يوفره له برنامج Medicare للمتقاعدين الأمريكيين..
ومن بين الخدمات المجانية التي يقدمها هذا البرنامج الصحي، هي :
١- الزيارات والفحوص الطبية ..
٢- المخابر والتصوير والتحصين ..
٣- خدمات الصحة العقلية ..
٤- الرعاية العاجلة وخدمات الطوارئ ..
٥- الدواء الموصوف ..
٦- اجراء العمليات الكبرى والصغرى ..
٧- وكذلك الفحوصات الدورية المستمرة للنظر والقولون والبروستاتا والكبد والسكر وغيرها، وللنساء تجرى فحوصات الثدي والرحم والسرطان وغيرها..
كما أن نظام التقاعد في امريكا لا يتضمن الحصول على الرواتب الشهرية أو بدل العجز، او الخدمات الصحية التي ذكرتها فقط، إنما يتضمن أيضاً الحصول على امتيازات Medicare عند وصول المواطن الامريكي أو حتى المقيم، إلى سن 65، حيث يتمتع أيضاً بكل خدمات البرنامج الصحي حتى لو لم يتقاعد بعد ..!
ويكمل العجوز الامريكي، حديثه لي، قائلاً: اما الآن، فارجو ان تخبرني عن خدمات النظام الصحي للمتقاعدين العراقيين ؟
ضحكت، وقلت له: إن المتقاعد العراقي ينال من الامتيازات والخدمات أضعافاً مضاعفة مما يناله قرينه الأمريكي.. ! قلت له ذلك ولم أر على وجهه أياً من علامات الدهشة او الاستغراب، فاضطررت الى أن أزيد في مبالغتي (حبتين) كما يقول الأخوة المصريون، فقلت له: إن المتقاعد العراقي (مدلل) طبياً وصحياً، فهو يحصل على أنواع الأدوية مجاناً، بدءاً من حبة الأسبرين، مروراً بعلاج ضغط الدم، والسكر والقلب وغيرها من الأمراض المزمنة، وانتهاءً بحبة الفياجرا ..
فصاح الأمريكي: واو … واو
فياجرا مجاناً ؟! إن نظام (الميديكير)، لا يمنحنا الفياجرا أو (السياليس) كمنشط جنسي، إنما يمنح كعلاج لتضخم البروستاتا.
ثم التفت لي وقال: وبعد، ماذا يحصل متقاعدكم من الخدمات الطبية؟
قلت: لدينا في العراق مستشفيات طوارئ، أي :
Emergency
وفي هذه المستشفيات تجد من الخدمة والرعاية والتطبب الفوري، والعلاج و(الهدوء) الذي لن تجده في مستشفيات امريكا، ومصحات العالم المتقدم بل ولن تجده حتى في المنتجعات السياحية.. إذ يظن المريض الراقد في مستشفى (الكندي) مثلاً، نفسه، وكأنه في الجنة وليس في مستشفى ..! وأجزم ان الطبيب والفيلسوف ( الكندي) لو علم بالخدمات والرعاية التي يقدمها المستشفى الذي سمي باسمه في بغداد، لرقص فرحاً وفخراً بهذه التسمية وبهذا المستوى الطبي الراقي..
أما عن الأدوية لدينا، فإن المتقاعد يحصل في ظل وجود الصيدليات (الأرضية) الباهرة في العراق، على أفضل الأدوية العالمية، دون الحاجة حتى الى وصفة طبية.. فمثلاً الدكتورة أم عليوي، والصيدلانية أم أموري، والبروفسور المضمد أبو مازن – طبعاً ليس المقصود ” الزعيم” احمد الجبوري أبو مازن- يقدمون الدواء والشفاء بدون روشتة أو ما نطلق عليها (الراشيتة)!
قاطعني العجوز الامريكي وقال: وماذا عن السكن، هل يحصل المتقاعد العراقي في ظل قانون التقاعد على شقة او سكن مريح بعد تعب السنين ؟!
قلت له: شقة؟ ماذا تقول يا رجل، إن الدولة العراقية تخيّر المتقاعد منذ اليوم الاول لتقاعده بين أن يرغب بمنحه شقة (ديلوكس) فخمة، تتوفر على غرفتي نوم واسعتين، وحمام داخلي لكل غرفة، فضلا عن مساحات مريحة مخصصة للمعيشة وتناول الطعام، وحمام إضافي للاغتسال، ومطبخ مجهز بالكامل ليستمتع المتقاعد بأرقى الخدمات.. في حين تضمن له المفروشات الحديثة والسرير المزدوج الكبير، الاستمتاع بأقصى درجات الراحة والاسترخاء تستكملها أحدث التقنيات ومجموعة من الخدمات التي تشمل على تكييف الهواء، وتلفاز بشاشة مسطحة مجهز بقنوات الكابل، وخدمة الواي فاي المجانية، وخزينة، وثلاجة صغيرة، وخدمة الغرف ومرافق غسيل الملابس، مما يجعلها واحدة من أفضل خيارات السكن للمتقاعد. وبين أن يحصل على بيت كبير وحديقة واسعة، إن لم يرغب في السكن بالشقة، علماً أن البيت او الشقة كلاهما (ملك طابو) للمتقاعد منذ اليوم الاول لتقاعده ..! توقفت قليلاً ثم قلت له: ها، ماذا تقول الآن عن نظامنا التقاعدي؟
قال: إنه نظام عظيم .. فنحن في امريكا، نحصل على شقة للمتقاعد عبر نظام خاص، يسمى (السكشن 8 ) وفيه جملة من الصعوبات والشروط.
قلت: هذا يعني أنكم عكسنا في العراق، لأن نظامنا السكني سهل وبسيط وغير معقد، خصوصاً نظام (السكشن حواسم والعشوائيات) في أحياء بغداد (المترفة) جداً، كمناطق الحسينية وحي طارق والشيشان والرشاد وغيرها.. إذ يتوفر للساكن في هذه المناطق كل ما يحلم بها الإنسان المعاصر و (المعصور )..!
فقال لي: من ذا الذي سعى واجتهد وناضل في دولتكم العراقية حتى تمكن من إنجاز وتحقيق هذه النسخة المتقدمة على كل نسخ قوانين التقاعد في بلدان العالم؟
قلت له: الفضل يعود لنوابنا الكرام، وفي جميع الدورات النيابية التي جرت بعد سقوط صدام ونظامه، فالنواب حفروا في الصخر حتى تمكنوا من نحت هذا القانون الفريد في امتيازاته.. تصور أن النواب العراقيين رفضوا استلام أي راتب تقاعدي ما لم يتحقق هذا القانون اولاً !.. ولا ننسى مواقف الحكومات العراقية التي جاءت بعد سقوط الصنم، فقد أبى جميع رؤساء الحكومات العراقية وكل وزراء المالية والخارجية والعدل والعمل، رؤية المتقاعد العراقي في مستوى معيشي وصحي يقل إن لم يكن أفضل من مستوى المتقاعد السويدي أو بات جميع متقاعدي العالم المتقدم يحسدوننا عليه ..
لكن الأمريكي عاد ليسألني قائلاً: ماذا يفعل المتقاعد العراقي في اول تقاعده، هل يستمتع، هل يسافر، هل يعوض السنين التي قضاها في العمل ؟
قلت له: ارجو ان أسمع منك اولاً !!
وقبل ان يجيبني الرجل، اطلق ولدي (علي) ضحكة مخنوقة، وهو يهمس في أذني قائلاً: بابا شنو جاي تبيع له سيارة، وتگله اسمع منك أولاً ؟!
قلت له بصوت واطئ: أسكت يمعود لا يروح يشك الرجال ويبطل ..!
قاطعني الامريكي قائلاً: المتقاعد الأمريكي، يتفرغ للسفر والمتعة وزيارة الاماكن التي لم يزرها هو وزوجته، فيذهبون مثلاً في (گروبات) سياحية دينية الى مواقع مختلفة، مثل: القدس العربية في فلسطين، والفاتيكان في إيطاليا، ومعبد مهابودهي بالهند ومعبد سنسوجي في اليابان، أو الى مسجد اَيا صوفيا في تركيا وضريح إيسه الكبير في اليابان …
وكذلك معبد هارمندير – أي (المعبد الذهبي) في الهند …والحدائق البهائية في مدينة حيفا.. أو الى الاهرامات في مصر.. بينما يزور بعض المتقاعدين افراد اسرهم الموزعين في بلدان العالم
في حين ينشغل البعض برعاية حديقته، او ينخرط باعمال تطوعية انسانية..
ثم التفت لي وقال: وماذا يفعل المتقاعد العراقي حين يغادر الوظيفة ؟
قلت: سيشتري حال تقاعده قبراً في وادي السلام (الفتحة الثامنة) !
رفع الامريكي رأسه وقال:
أحقاً ذلك؟!
قلت له: حقاً ونص .. لأن (الفتحة الثامنة راح تقبط) والأخ لا يريد ان يدفن في قبر بعيد عن قبر أبيه !
قال: ألا يذهبون في گروبات سياحية؟
قلت: بلى يذهبون !
قال الى ايطاليا ام سويسرا ام اليونان؟
قلت: كلا، هم يستأجرون (كيا) وأقوى شي عدهم الذهاب الى شريفة بنت الحسن عليها السلام.. او الى (علي الشرجي ).. وأبوك الله يرحمه .. أما الحجية المتقاعدة، فهي تستعد للموت ولوازمه منذ اليوم الاول لتقاعدها، مثل تهيئة (فلوس الدفنة) واقامة (الثوابات) مقدماً، ثم تبدأ بتوزيع محابسها وثيابها على بناتها كي يتذكرن أمهن بعد موتها !!
وهنا نادت الموظفة على اسمي، وحين نهضت لأودع الرجل، ابتسم ابني للرجل الامريكي العجوز، وقال له: إن والدي يمزح معك، فراتب المتقاعد العراقي ثلاث ورقات ونصف فقط.. يعني 350 دولارا، وبالعراقي يصيرن 500 الف دينار، والله ينطي وجيه عباس من كان نائب حيث قاتل وناضل حتى رفع راتب المتقاعد العراقي من 400 الف دينار الى 500 الف دينار.. كما أود أن أخبرك أن حال المتقاعد العراقي أسوأ من حال المتقاعد في الصومال والهند والدول الفقيرة، وموضوع الشقة والبيت والحديقة والواي فاي، مزاح ليس أكثر.. إن التقاعد في العراق يعني للمتقاعد العراقي دنو الاجل وقرب الرحيل.. !!فوقف الامريكي على قدميه، وقال: لا أصدق ذلك .. أهذا حال المتقاعد في بلدان النفط؟
ثم مسكني الرجل من يدي بلطف وهو يقول:
هل ممكن أعرف معنى (التيسي فيسي) ؟!
قلت له: التيسي فيسي نظام عراقي سريالي يشبه الى حد كبير نظام (الشكو ماكو)، وكلاهما اختراع عراقي محض ..
نظر الامريكي بدهشة في وجه ابني، وقال له:
كل شي ما افتهمت !
فقال له ابني : ليش آني افتهمت حتى انت تفتهم ؟!