بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لم أعرف (زعيماً) في التاريخ الإسلامي- القديم والحديث- منشغلاً بالفقر مثل انشغال الإمام علي به.. ولم يكن عليٌّ منشغلاً بإطار المشكلة فحسب، إنما ذهب الى معالجتها أيضاً، حتى لو يضطر لمعالجتها بالسيف.. لذلك تمنى أن يكون الفقر رجلاً ليقتله ..
وحين ينشغل رجل مفكر وعالم وفيلسوف وحكيم وصاحب رسالة عظيمة مثل علي بن أبي طالب بموضوعة الفقر، على حساب مشاغله العلمية والدينية والأدبية الأخرى، بحيث يتمناه رجلاً ليقتله، فهذا يعني ان الفقر سيطر على مشاعر وحواس الإمام سيطرة كبيرة.. كما أن انشغال فارس مغوار بحجم الإمام علي، بموضوعة الفقر أكثر من انشغاله بميادين المعارك ولغة السيوف والرماح، والفتوحات والغزوات، فهذا يعني ان الرجل ضاق ذرعاً بهذا الداء الذي سكنه، وراح ينهش في حياته وحياة الناس دون رحمة..
ولكي يكون القارئ قريباً مما أفكر فيه، يجب عليه ان يعرف ان علياً لم يصل الى هذه الدرجة من الكراهية للفقر، عبر سماع قصص البؤس والحرمان والاملاق، من أفواه الناس فحسب، إنما كان هو نفسه فقيراً معدماً، حتى أصبح الفقر واحداً من ملامح حياته الشخصية..
نعم، فقد كان علي فقيراً حدّ أن يبات ليله جائعاً، وأن تعيش زوجته السيدة فاطمة الزهراء، حياتها ( القصيرة) محرومة من أبسط سبل العيش ..
إن هذا الذي أتحدث عنه أيها السادة، ليس بقالاً من بقالي البصرة، او حمالاً من حمالي الكوفة، فيجوع، ويحتاج مثل بقية أقرانه،إنما أتحدث هنا عن (خليفة) – أي ملك، او رئيس دولة بلغة اليوم – !
نعم فهو ملك زمانه وليس مديراً عاماً، أو محافظاً أو وزيراً..او وكيل وزارة، ولكم ان تتخيلوا (ملكاً) ينام ليله جائعاً، لا بطراً ولا (حمية) طبية، إنما فقط، لأنه لا يملك ثمن الرغيف الذي يسد به رمقه !
أما السيدة التي عاشت عمرها – محرومة – فهي كريمة النبي محمد بكل ما في هذا النسب من مهابة ومكانة ومقام استثنائي !!
والعجيب أن يتحدث مسؤولونا اليوم عن ولائهم للإمام علي وللزهراء عليهما السلام !..
إن العوز والفقر والجوع الذي عرفه علي بن أبي طالب في حياته- سواء وهو الخليفة الذي كانت بيده كل خزائن الدولة، أو قبلها حين كان ركناً مهماً واساسياً من اركان حكم الدولة الإسلامية، حيث يسمعه الخليفة أبو بكر الصديق، ويستشيره الخليفة عمر، ولا يستغني عن نصائحه الخليفة عثمان بن عفان.. وكان بإمكان الإمام علي ان يملأ بيته ويغنيه بالذهب والاموال كما فعل غيره، وأن يعيش مترفاً مثلما عاش الآخرون.. لكن هذا الرجل العجيب، الذي كان بكل هذه المواقع الادارية الكبيرة، عاش ومات فقيراً وجائعاً ومحتاجاً، يفطر في آخر صيامه على كسرة خبز، ورأس بصل، ويلبس ثوباً مرقعاً لايعرف له لون.
إن هذه المعاناة هي التي دفعته الى أن يتمنى قتل الفقر، لو كان الفقر رجلاً ..
ولأنّ علياً يعرف سرّ العلة وأسبابها، فقد قال واثقاً :
“ما شبع غني إلا بما جاع به فقير … “
إذاً، فالفقر برأي علي، لم يأت من الغيب، ولا من اللا شيء، إنما جاء من جشع الأغنياء والتجار والمستغلين .. وهذا لعمري أعظم سبق نظري اقتصادي علمي يسجل لأبي الحسن عليه السلام.
وكم تمنيت اليوم أن يكون الإمام علي بيننا، ليرى أن التجار والاغنياء لم يعودوا وحدهم سبب فقرنا، إنما انضم اليهم، بل وتفوق عليهم (الخلفاء)، والوزراء والوكلاء والمديرون والنواب والمحافظون، ووكلاؤهم، وأبناؤهم، وبناتهم، واخوانهم، و(سواقوهم)، ومديرو أعمالهم، وهلمّ جرّا .. بحيث بات العراق مزرعة مفتوحة الابواب.. بلا أسوار ولا حراس ولا نواطير، مباحة لكل من هب ودب، وكل من يريد نهب (حصة) من ثمارها..!
لقد تمنيت ان أقول لأبي الحسن بكل ما في القلب من أسى ووجع: لقد صار الفقر رجلاً، بل غولاً يا علي، صار واقعاً وحقيقة تمشي على قدمين، وأخبرك بأن الذين (شبعوا ) من مال الفقير، ليسوا من الأعداء والتجار والأغنياء والمستغلين فحسب، إنما بعضهم منا، ومن أبناء جلدتنا، بل أن بعضهم يدعي الولاء لك – وأنت من ولائهم براء – ..
هل تصدق يا ابا الحسن أن هؤلاء الذين يدعون الولاء لك، هم سبب فقرنا وجوعنا ومأساتنا، بعد ان اتحدوا مع – الآخرين-على نهبنا، وسرقتنا، واذلالنا..؟!
فامتشق (ذو الفقار) وتعالَ ياعلي، لتقطع به رؤوس الذين أفقرونا، فهم أصل البلاء، وأصل الفقر الذي تمنيته رجلاً في يوم ما، لتقتله !!