بقلم: فالح حسون الدراجي ..
منذ رحيل أخي وصديقي كريم العراقي وأنا أعيش وضعاً نفسياً وصحياً غير مسبوق.. وقبل ان أستعيد حالتي الطبيعية، تلقيت خبر رحيل صديقي الشاعر الطيب جليل صبيح، ليزيد حالي سوءاً، وكآبة، وحزناً، فخسارة صديقين عزيزين في وقت واحد أمر يحتاج الى طاقة كبيرة، وصبر عال، وقلب قادر على حمل كارثتين بهذا المستوى ..
لكن ما حدث في عرس الحمدانية لم يهز نفسي ويوجعها فقط، إنما فطر قلبي وأدماه أيضاً !!
وأسباب الوجع على هذه المأساة عديدة، أولها حجم الخسارة وفداحتها، وخصوصية المناسبة التي وقعت فيها المأساة، حيث يعلم الجميع أن الحادث وقع في حفلة عرس مفرحة، وأن أغلب الضحايا هم من الأطفال والنساء من أهل وأقارب العروسين، أما السبب الثالث، فيتعلق بهويات القتلى والجرحى، حيث ظهر ان المصيبة وقعت في بنية الطيف المسيحي الجميل والراقي، وكلنا يعلم ان عدد المسيحيين في العراق يتناقص بشكل مخيف، وهو الأمر الذي يحذر منه أصحاب الشان، لذلك جاءت هذه الضربة، وبهذه الخسارة العددية الكبيرة، سبباً كافياً لجعل العراقيين من مختلف الأطياف يتعاطفون مع ضحايا هذه المأساة، خصوصاً وأن من بين الضحايا عدد غير قليل من الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا حول لهم ولا قوة.. ولم يكن غريباً قط أن يشارك آلاف العراقيين في تشييع الضحايا، وقد ارتسمت آيات الحزن والأسى على وجوههم، لا سيما اولئك الذين قدموا من مدن العراق البعيدة للمشاركة في التشييع.. ومما يخفف من وجع المأساة، تعاطف العراقيين بمسيحييهم ومسلميهم ومندائييهم وأيزيدييهم، وتقاسمهم آلام وأوجاع هذه الكارثة دون تمييز، يتقدمهم سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، وكبار علماء الدين الشيعة والسنة، فضلاً عن قادة البلد، وأغلب الزعماء السياسيين، وعلى رأسهم سكرتير الحزب الشيوعي رائد فهمي، وقيادة حزبه، وقادة الكتل السياسية، ورؤساء العشائر والمنظمات والفاعليات الثقافية والمهنية والنقابية.. ولعل الامر الذي يستحق الذكر والإشادة هو موقف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي ذهب الى حيث وقعت الفجيعة، ومواساة عوائل الضحايا بنفسه، كما أعلن حالة الحداد في البلاد لمدة ثلاثة أيام، وكذلك موقف وزير الداخلية عبد الأمير الشمري الذي (أقام ) في الحمدانية منذ ساعة اعلان نبأ الحادث الأليم حتى كتابة هذا المقال، ليشرف شخصياً على التحقيق في الحادث فضلاً عن معالجة ما يمكن معالجته، ناهيك من موقف مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، الذي أكد وأثبت إنسانيته وعراقيته في كل حدث وحادث.. وكذلك مواقف وزير الصحة ووزير الدفاع ورئيس أركان الجيش ومعاونه الفريق العلاق، ورئيس وأركان ومنتسبي هيئة الحشد الشعبي الذين وقفوا في طوابير طويلة ليتبرعوا بالدم للضحايا.. كما أن البيوت العراقية صدمت بهذه المأساة صدمة عنيفة، ولا أظن أن بيتاً عراقياً واحداً لم ينل منه حزن الفجيعة، وهنا أذكر للدلالة والمثال ما رأيته في بيتي من حزن وألم شديد، فقد وجدت زوجتي تبكي على مصاب الحمدانية، ولم أرها تبكي من قبل كما تبكي اليوم.. حتى أن ولدي قال إن أمي بكت على ضحايا عرس الحمدانية أكثر مما بكت على فقد أهلها! لقد أردت أن أقول هنا بأن العراقيين أثبتوا عبر تعاطفهم مع ضحايا المأساة، وطنيتهم، وانسانيتهم، ووحدتهم، بمعزل عن اختلاف الدين والمذهب والقومية وغير ذلك، ألم يقل سيد البلغاء علي بن أبي طالب:( الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)؟
لقد كتبت هذا المقال لا لكي امتدح العراقيين، فالعراقيون ليسوا بحاجة لشهادة مني او من غيري، إنما أردت أن أشير الى قلة قليلة من (غير العراقيين) الذين اظهروا على مواقع (السوشيال ميديا) بعض التعليقات (التافهة)، والكلمات الشامتة التي لا تليق بالعراقيين الأصلاء، ولا تليق حتى بالإنسانية التي ينتمون اليها للأسف.. وإلا كيف يمكن لأحد مهما كان، أن يشمت باحتراق طفل بريء، وبتفحم جثة أم جاءت لتفرح بعرس ابنتها، لمجرد أنهم من دين آخر أو قومية أخرى؟!
وإذا كان العراقيون بكل أديانهم ومذاهبهم قد تعاطفوا مع ضحايا عرس الحمدانية، فمن أي دين ومذهب وعقيدة، اولئك الأنفار الذين شمتوا بقتل وحرق المحتفلين بعرس (ابنهم أو ابنتهم) ؟!
إن الذين قرأت تعليقاتهم الكريهة ليسوا عراقيين، لأن العراقيين طيبون جداً وكرماء جداً، والشماتة بمصائب الناس ليست من شيمهم، ولا هي من أخلاقهم.. والمضحك أن بعض الشامتين برر وقوع كارثة العرس بوجود الخمور على موائد الحفل، متناسين أن العريسين مسيحيان، ومراسم الحفل (مسيحية)، وقد أقيم في قاعة احتفالية تقع في احدى المناطق المسيحية، والخمور كما معروف ليست محرمة في الديانة المسيحية، وربما يكون الحق مع الشامتين لو كان الحفل قد أقيم في جامع من جوامع البصرة او ديالى أو الفلوجة.. وهنا أود أن اسأل الشامتين، وأقول لهم: ألا تقدم مثلاً الخمور في حفلات المدن العراقية الأخرى، أم أنها تقدم في الحمدانية، وفي هذه القاعة فقط ؟!
ثمة آخرون برروا وقوع المأساة بغضب الله على العروسين لأنهما رقصا في حفل عرسهما، فضلاً عن رقص بعض المحتفلين وعدم احتشامهم !! وكأن هذه المناسبة ليست فرحاً وعرساً، أو أن الناس في مدن العراق الأخرى لم يحتفلوا بمثل هذه المناسبات بالرقص، والغناء والدبكة والچوبي، والهوسات، وباطلاق العيارات النارية.. فلماذا لا يغضب سبحانه وتعالى على تلك الحفلات، بينما يغضب على شابين رقصا في ليلة عرسهما التي لن تتكرر في حياتهما؟! فحاشا لله الكريم، والجميل، الذي نعرفه، ان يكون كما يريده ويتخيله هؤلاء..!
إن جميعنا يعلم بأن أغلب حفلات الأعراس التي تقام في مدن العراق تحتوي فقرات من الغناء والرقص الشرقي، وأحياناً الغجري، مع تقديم الخمر، ولم نر الله يغضب عليهم فيحرق قاعاتهم وأطفالهم .. لإن الله أكرم وأسمى واعظم من تفكير هؤلاء الهمج الرعاع.. وما إقحام رب العالمين، الذي خلق الحياة والحب والجمال، واشراكه بهذه القضايا البغيضة إلا إساءة لقدسية الخالق، وخدش لجلالته، ورحمته الواسعة. ولعل ما أضحكني أيضاً أن بعضهم ادعى بان الذي حدث، غضب إلهي على مدينة الحمدانية، أو (بغديدا) باسمها الأصلي، لأنها مدينة (التافه) سلوان الذي أحرق القرآن الكريم في السويد.. ولا أعرف لماذا يعاقب الله أطفال الحمدانية ويحرقهم، بينما يترك هذا التافه متسكعاً في مراقص وبارات ومواخير السويد؟
أحدهم كتب – وهو داعشي دون شك-: إن الله أراد أن يقول للمسيحيين عبر هذا الحريق : أخرجوا من العراق، أرض الاسلام !
ولم يسأل الكاتب نفسه ويقول: لماذا لم يطلب الله من المسلمين الذين يملؤون مدن (الكفار) الأوربية والأمريكية، أن يغادروها أيضاً، ويعودوا (لبلدانهم الاسلامية ) بدلاً من أن يطلب من سكان العراق الأصليين مغادرة بلدهم وبلد اجدادهم ؟!
إن الشماتة صفة مذمومة مكروهة، تقترن بالحسد واللؤم والدونية.. لذلك تجد للشامت مساحة واسعة في التراث الشعبي العراقي متمثلة بأشعار الدارميات والأبوذيات والمواويل والحكايات التي تحتقر (الشامت). كما أن العراقيين يضعون للميت حرمة لا يجوز أبداً الإقتراب منها.. وقد ورد عن رسول الله قوله (حرمة الميت لا تزول حياً وميتاً )! فكيف ينال هؤلاء من حرمة الموتى، وقد أكد عليها رسول الله بنفسه ؟!