بقلم: فالح حسون الدراجي ..
تحفظ ذاكرة قلبي صوراً ومواقف وذكريات شخصية عديدة للبطل العالمي علي الگيار، ذكريات عمر بعضها يقارب الستين عاماً وبعضها لم يتجاوز العشر سنوات.. بعضها حلو، وبعضها مر، ومؤلم جداً.. ذكريات ومواقف كنت قد كتبت عن بعضها اربع مقالات، نشرت في أزمان متباعدة وعقود مختلفة، وبعضها لم ينشر حتى اللحظة.. فمن هو علي الگيار، وما علاقتي به، وماذا يمكن أن أقوله للتاريخ عن مواقفه الوطنية والشخصية التي ربما لايعرفها العراقيون ؟.
في البدء أود أن أشير الى وطنية علي الگيار والتي تجلت في مواقف تاريخية لا يمكن انكارها أبداً، لا سيما موقفه يوم الثامن من شباط ١٩٦٣، وتصديه البطولي للانقلاب، حيث كان علي الگيار في طليعة المناهضين لزمرة البعث، وفي اول صفوف الفقراء المقاومين من أبناء صرائف العاصمة والميزرة والنهضة، وقد دفع ثمن هذا الموقف الوطني، سنتين من الاعتقال والتعذيب والسجن، ليخرج بعدها من السجن بمباشرة نحو الشغل، لإعالة عائلته اولاً، والى التدريب الرياضي الشاق ليحقق طموحاته ويعوض ما فاته، فينجح بعد سنة واحدة في تحقيق ما لم تحققه الرياضة العراقية كلها، باستثناء البطل البصري (الشيوعي)،
عبد الواحد عزيز صاحب الميدالية الوحيدة في التاريخ الاولمبي العراقي .. ويشرفني هنا أن أذكر أن ثمة تشابهاً واضحاً بين ظروف أسرتي وأسرة علي الگيار، إذ أن كلتا الأسرتين هاجرتا من ارياف العمارة، وسكنتا في الصرائف، ثم انتقلتا الى مدينة الثورة.. والفرق الوحيد بينهما، أن أسرتي سكنت قطاع ٤٣، وأسرة علي الگيار سكنت قطاع ٤٥، وهو القطاع المقابل تماماً لقطاعنا.. ولعل من حسن الصدف أن تكون زوجتي أم حسون من عشيرة بني كعب، وهي نفس العشيرة، بل والفرع الذي تنتسب له والدة علي الگيار رحمها الله.
لقد بدأت معرفتي بالسيد علي عطية الياسري ( علي الگيار)، من خلال موقف حدث في نهاية عام ١٩٦٥، في مقهى تقع بين قطاعنا وقطاع علي الگيار، وكان عمري وقتها ١٤ سنة، وعلى ما أذكر، كنت ومعي عدد غير قليل من الفتيان نشاهد مباراة كروية عبر شاشة التلفزيون بين منتخبي العراق ومصر.. ولأني جئت من المدرسة الى المقهى مباشرة، ولم أتناول الطعام منذ فطور الصباح، فقد شعرت بجوع شديد.. لذلك خرجت في استراحة الشوطين الى مطعم (سفري) يقع أمام المقهى وطلبت (شيشين معلاگ وصمونة)، فاعتذر صاحب المطعم، قائلاً إن المعلاگ محجوز ومباع كله لهذا الرجل.. التفتّ نحو ذلك (الرجل)، وإذا بي أجد شاباً ضخماً فخماً منهمكاً بتناول (المعلاگ)، يلتهم كل ما يوضع أمامه بدون صمون، فنظرت متعجباً، وأنا أرى اكثر من ثلاثين سيخاً من المعلاگ وقد اجهز عليها، فضلاً عن حوالي عشرين سيخاً في المنقلة، يستعد لسحقها أيضاً، وحين رأيت هذا المشهد، أدركت أن لا امل لي أبداً في الحصول على ما أريد، فاستدرت لأعود نحو المقهى، والجوع يعصر معدتي، لكن الرجل الضخم صاح خلفي، وحين التفتّ اليه، وجدته يفتح صمونة ويضع فيها ثلاثة أسياخ من المعلاگ مع بعض الكرفس، ويناولها لي، شكرته، ثم اخرجت ثلاثين فلساً – كانت كل ما في جيبي – ووضعتها على المنضدة، لكنه ضحك، وقال: واصل على حسابي، وحين رفضت، هددني مازحاً، وهو يقول: ترى آكل اللفة وأخليك جوعان.
فشكرته على كرمه كثيراً .. ومضيت، لكن صورته ظلت في ذاكرتي دون أن اعرف من يكون هذا الرجل، حتى رأيت صورته بعد شهور تملأ شاشات التلفاز والصحف ونشرات الاخبار، وكلها تتحدث عن بطولته بعد ان فاز بالمركز الثالث في بطولة العالم لكمال الاجسام في برلين، متخطياً أبطالاً في لعبة كمال الاجسام، كان من بينهم النجم( آرنولد)..
ولما تعارفنا بعد سنوات، واصبحنا انا وعلي الگيار اصدقاء، سألته عن (واقعة) المعلاگ، فقال لي ضاحكاً: أنت تعرف أن رياضيي كمال الأجسام يحتاجون الغذاء أكثر من غيرهم، لذلك كنت كل شهر أخصص ديناراً من راتبي، لتناول المعلاگ، لأعوض بها ما أبذله في التدريب يومياً.
أمس، وبالصدفة علمت بأن صديقي الگيار تعرض لجلطة دموية فاتصلت به حالاً، وما ان أخبره ولده بي، وسمع صوتي، حتى صاح بصوت فقد الكثير من وضوحه وقوته : ( أبو حسون أين أنت يارجل)؟!
اعتذرت له عن انقطاعي الطويل، والظروف التي مررت بها.. ورغم أن كلامه كان يصلني بطيئاً متقطعاً احياناً، لكن الشيء المفرح أن ذاكرته جيدة نوعا ما، اذ كان يتذكر معي بعض المحطات والذكريات البعيدة، بل والبعيدة جداً.
ولا اكشف سراً لو قلت إن أبا تحسين احزنني كثيراً، وهو يروي لي معاناته مع المرض والظروف الصعبة التي يمر بها، إذ كيف يمكن أن يعاني هذا المناضل الوطني، والبطل الرياضي العالمي، والرجل النبيل، صاحب الغيرة، والنخوة العراقية، المعروف بقيمه وكبريائه وإبائه وكرامته التي منعته من أن يمد يده لأحد، حتى وهو في أسوأ الظروف الصحية
والمعيشية.. أقول كيف يعاني شخص مثل علي الگيار في تدبير مصاريف علاجه المتواصل، وادويته التي لا تتوقف، ومعيشة عائلته الكبيرة جداً جداً..؟
لقد وجدته يوم أمس رغم قوته وصلابته وجبروته وثقته بنفسه، حزيناً ومقهوراً، ليس بسبب ما يعانيه من عوز وحاجة، بعد ان قطعت عنه رواتبه فحسب، إنما أيضاً بسبب جحود الدولة والأجهزة الحكومية والرياضية المسؤولة عنه.. لقد كنت أتحدث معه أمس وأنا أسأل نفسي، واقول كيف يكون حال علي الگيار لو رضي وقتها بالعروض التي انهالت عليه من امريكا واوربا عام ١٩٦٦، ووافق مثل آرنولد وغيره من الابطال على التجنس بإحدى جنسيات تلك الدول، وتمثيلها عالمياً ؟!.
إن الفوز العالمي الباهر الذي حققه الگيار وقتها، جعل العراقيين المقيمين في المانيا الديمقراطية- واغلبهم من الشيوعيين- يحملونه على اعناقهم من قاعة السباق حتى الفندق الذي يقيم فيه، وهم يطوفون به في شوارع برلين، فرحين، فخورين به، وببلدهم الذي أنجبه..
ولعل من المواقف التي لم انسها، ذلك الموقف الذي حدثنا عنه الشاعر الراحل كاظم اسماعيل الگاطع، في تموز ١٩٧٤، أو في تموز عام ١٩٧٥- إذ لم أعد أتذكر الان بالضبط- حيث يقول الگاطع: ” جاءني الى بيتي البطل علي الگيار، يحمل بيده خمسة مظاريف مغلقة، ناولني المظاريف، وهو يقول: هذه خمس دعوات شعرية موجهة من نادي الميثاق الرياضي لخمسة شعراء شيوعيين، من أجل المشاركة في المهرجان الشعري الذي سيقيمه النادي المذكور، بمناسبة ذكرى تأسيس (الجبهة الوطنية)، المصادف يوم ١٦ تموز، وسيشارك في المهرجان خمسة شعراء بعثيين أيضاً، كتعبير عن الروح الجبهوية والتفاعل المشترك مع المناسبة.. وقال الگيار أيضاً، إن ادارة النادي اختارته لهذه المهمة دون غيره، بسبب العلاقة الطيبة التي تجمعه بالشعراء الشيوعيين، فضلاً عن كونه أحد كوادر النادي الرياضية.. اما الشعراء الشيوعيون المدعوون في هذه البطاقات، فهم: كاظم اسماعيل الگاطع، وكريم العراقي، وفالح حسون الدراجي وريسان الخزعلي وخيون دواي الفهد.. ثم أضيف لاحقاً اسم الشاعر رضا العبودي ويكمل الگاطع حديثه قائلاً: تناولت الدعوات، وفتحت المظروف الذي يحمل اسمي، وفوجئت أن المهرجان -كما مكتوب في الدعوة – يقام بمناسبة ذكرى ( ثورة السابع عشر عشر من تموز) وليس بمناسبة الجبهة الوطنية كما قيل لعلي الگيار !!
فقلت لصديقي الگيار : عزيزي أبو حسين، هل قرأت الدعوة جيدا ؟ فقال: لا والله ابو وسام !!
فقلت له: هاك شوفها .. !!وحين قرأها، قفز من الكرسي غاضباً، وهو يضرب كفاً بكف، ويقول :
” أنا أخو عاشور .. مع الأسف اتقشمرت ..لا يا .. .. ..”! ! ثم قام بتمزيق المظاريف الخمسة، وهو في أشد حالات العصبية لما حصل معه من غش ..
وبعد يومين تلقينا دعوات أخرى جديدة، كتب فيها : (مهرجان الجبهة الوطنية) يدعوكم الى المشاركة.. الخ..وقد شاركنا فيه فعلاً .
وهنا، وللأمانة اقول إن علي الگيار ظل وفياً لأهله وناسه ومدينته الكادحة، ومبادئه وقيمه الوطنية الشريفة، ولم يحد عنها قيد أنملة، سواء يوم كان عاملاً يقوم (بتزفيت وتگيير) شوارع بغداد، او حين كان عاملاً بسيطاً في شركة الغزل والنسيج، او لما اشتغل سائق شاحنة دولية، أو حين مثل نادي الشرطة الرياضي وجلب لهذا النادي اروع البطولات، فمنح بسببها مع زملائه الأبطال رتبة مفوض، أو لما اضطر للعمل كسائق تاكسي من اجل معيشة عائلته التي تضم حوالي خمسين فرداً.. كما ظل هذا الرجل شامخاً كما كان، لم يتغير أبداً مهما تغيرت الظروف والاحوال، بدءاً من تصديه البطولي لانقلاب شباط، والانتكاسات اللاحقة، الى تصديه الجسور لانتكاسة الجلطة الدموية الرهيبة..
وفي كلتا الحالتين فأن البطولة واحدة شامخة تأبى قط أن تفارق أهلها.. ختاماً اسمحوا لي أن أستذكر لكم، موقفاً حدث امامي قبل عشر سنوات تقريباً، حين كنا نجلس في صالة أحد فنادق بغداد الكبيرة، وتحديداً بعد انتهاء انتخابات الاتحاد العراقي لكمال الاجسام، التي شارك فيها الگيار.. وكان مجلسنا يضم عدداً من الزملاء والاصدقاء، من بينهم علي الگيار نفسه، وفجأة توجه أحد الرياضيين نحو طاولتنا، ومد يده مصافحاً علي الگيار، وهو يقول معتذراً: سامحني آني ما انتخبتك سيدنا ….!!
فقال له الگيار ضاحكاً: چا خويه ليش ما انتخبتني ؟!
فقال له: لأن إنت ما تصلي سيدنا !!
فابتسم الگيار وقال له:
چا خويه آني مرشح، على رئاسة الأوقاف لو على رئاسة كمال الأجسام ؟!
والشيء بالشيء يذكر، سألني علي الگيار أمس عن السبب الذي يمنع اجهزة الدولة من نصب تمثاله الذي صنعه له طلبة معهد الفنون الجميلة منذ سنوات ؟!
فقلت له ضاحكاً: يجوز لأن إنت ما تصلي سيدنا !