بقلم : فالح حسون الدراجي ..
قبل سنوات بعيدة، كنت أقيم في دولة عربية.. وفي أحد الصباحات، سمعني أحد الأصدقاء وأنا أستمع الى الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يتلو بعضاً من آيات القرآن الكريم، فسألني الصديق مستغرباً:
أتسمع القرآن يافالح ؟!
قلت: نعم، وما الغريب ؟
قال: لأنك علماني، ولست متديناً؟!
قلت: متى كان القرآن حكراً على المتدينين، أليس القرآن كلام الله، ونحن خلق الله، و (عياله)؟
قال: بلى بلى ..
قلت: إذاً، أين الغرابة؟!
ولا أتذكر ماذا كان جواب صديقي وقتها، لكني أتذكر الآن، وأستذكر مع نفسي تلك العلاقة الطويلة التي تربطني بالقرآن، وبسماعه كل صباح بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد حصراً، ولم أفكر في يوم من الأيام أني علماني أو متدين، فأنا كنت ولم أزل أسمع القرآن لأسباب عديدة من بينها روحية وجمالية.. وعدا سماع القرآن بصوت عبد الباسط، فثمة عادات يومية أخرى أمارسها أيضاً كل صباح، كالإستماع لصوت فيروز، وإدماني على نشرة الاخبار العربية من اذاعة (البي بي سي) في الساعة السابعة من كل صباح، بحيث لم تزل افتتاحيتها اليومية : “هنا لندن.. سيداتي وسادتي» التابعة لدقات “بيغ بين” مطبوعة في أذني وقلبي حتى هذه اللحظة ..
وطبعاً فإن كل محطات عمري لم تزل لامعة في ذاكرتي، منذ أول شبابي، ومعرفتي الأولى بالحياة، والجمال، وروعة الصباح، وجدلية بزوغ فجر جديد كل يوم، وسريالية اللحظة التي تغزل فيها الشمس خيوطها الذهبية الأولى، أو حين أرى ورد الجوري وهو ينهض أمامي باثاً عطره، ومغتسلاً بقطرات الندى صباحاً، فأسمع رغم بعد الزمان والمكان، زقزقة عصفورين عاشقين يقفان بكل طمأنينة على أغصان شجرة البرتقال، تلك الشجرة الخالدة التي لم تنقطع ثمارها لعدة عقود. ولا اكشف سراً لو قلت إن لي طقساً يومياً كنت أمارسه كل صباح، وبقيت محافظاً عليه قدر الامكان، رغم المتغيرات التي حصلت، ومن بين المتغيرات، تنقلات سكني، وتوقف البث العربي من اذاعة (البي بي سي) نفسها، ولم يبق لي من مفردات ذلك الطقس الصباحي غير صوت عبد الباسط (رحمه الله)، وصوت فيروز (حفظها الله وأطال في عمرها).. ولعل الشيء الجديد الذي حصل معي، هو اضافة فقرة تلاوة القرآن بصوت عبد الباسط مساءً، وتحديداً في أولى ساعات المغرب.. وبهذا يدخل صوت عبد الباسط بيتنا في الصباح والمساء أيضاً .. وللحق فإن فقرة المساء أضافتها زوجتي، لأنها تؤمن بأن تلاوة القرآن بصوت عبد الباسط تطرد الوحشة، وتبعد كآبة المغرب عن النفوس، كما أنها تطرد الشياطين عن البيت، خاصة وهي تعتقد أن البيوت في امريكا تزدحم بالشياطين عند حلول المغرب..!!
لذلك، يمكن القول إننا تقاسمنا صوت الشيخ عبد الباسط، فهي لها تلاوة (المغرب)، وأنا لي تلاوة الصباح، والفرق الوحيد بيننا، أني أستمتع جداً بتلاوة عبد الباسط، بينما هي تطرد بها شياطين امريكا، وتحصّن بيتها واولادها وزوجها من شرور الأشرار، وأعتقد أن كلينا على حق فيما يعتقد !
وعن صوت، وامكانات، وموهبة الشيخ عبد الباسط، يمكنني الحديث طويلاً دون توقف، ليس لأن الرجل مقرئ مهم وفذ فحسب، إنما لأنه ساهم بشكل كبير في نقل القرآن من مجلدات (المصاحف)، وبيوت العبادة، والعلوم الدينية الثقيلة، واختلاف المنابر والتفاسير والشروحات والمعاني، الى الفضاءات الواسعة، والهواء الطلق، والبيوت الفقيرة والغنية على حد سواء .. وأذكر ان احدهم سألني يوماً – بعد أن علم بإعجابي وعلاقتي بالشيخ عبد الباسط قائلاً: بماذا يختلف صاحبك عن بقية قراء القرآن؟!
قلت له: إن جميع القراء يبثون الآيات وسور القرآن الى أذاننا، إلا الشيخ عبد الباسط، فهو الوحيد الذي يرسلها إلى قلوبنا قبل أذاننا .. والفرق كبير حتماً بين الأذن والقلب .. واذا كان الشاعر الكبير محمود درويش قد قدم الشاعر نزار قباني يوماً بقوله: أقدم لكم الشاعر الذي جعل الشعر بسيطاً كالخبز، فأنا أستطيع هنا – مع الفارق طبعاً –أن أقدم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ذلك المقرئ الذي جعل القرآن ذا اللغة العربية القريشية والبلاغة والسجع، والمفردات ذات المعاني الصعبة، خصوصاً على الأجيال الحالية، فضلاً عن ما في القرآن من وعيد وتهديد مخيف ومرعب ينتظر الكافرين يوم الحساب، وجعل لغة القرآن بصوته، حلوة طرية طيعة، مقبولة، يفهمها الجميع ويطرب لها حد التيه أحياناً، بما في ذلك الجمهور غير العربي، بل و غير المسلم أيضاً .. ولكم أن تستمعوا لتسجيلاته لتعرفوا ماذا يفعل صوت عبد الباسط في الحضور المستمع لتجويداته ؟!..
ولا أبالغ لو قلت إن بريق وجمال صوت الشيخ عبد الباسط، وما يحمله من شحنات عاطفية وجدانية، وحتى تطريبية ايضاً، منحه تفرداً وتميزاً وتأثيراً على كل من يسمعه، وجعله يدخل قلوب الناس دون استئذان ..
ويبدو أن المرونة والتحرر لم يكونا محصورين في صوته فقط، إنما هما جزء من شخصيته أيضاً. وتأكيداً على مرونته، وتحرره من كلفة التزمت، وتأييداً لما قلته عن جمال وحلاوة صوته، فقد قامت مجلة الكواكب المصرية باجراء تحقيق صحفي، حول مدى إمكانية قيام المطربين الكبار مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ بترتيل القرآن، وبالمقابل، قيام قراء القرآن بالغناء، وقد امتنع الكثير من الشيوخ في الاجابة عن السؤال، بينما اجاب عليه بعض الشيوخ والمطربين، من بينهم الشيخ عبد الباسط، الذي قال نصاً: « كثيراً ما أردد في خلوتي بعض الأغنيات لعبد الحليم وعبدالوهاب، وأنا من عشاق أم كلثوم، لكني لن أخلع الجبة والقفطان لأقف وخلفي فرقة موسيقية وأغني (ظلموه)، أو غيرها، لأني سأفشل فشلاً ذريعاً دون شك..»!
لكن عبدالحليم حافظ رد على ذلك بقوله، أنه متأكد أن عبدالباسط عبدالصمد لن يفشل إذا تحول من مقرئ إلى مغن لأنه يملك صوتاً جميلاً، ولن يحتاج سوى التمرين، وسيكون له الكثير من المعجبين..!
وحول رأي أصحاب التخصص من كبار الموسيقيين العرب، بصوت عبد الباسط ومساحته وقدراته الفنية، فقد أجمعوا على أن صوته يتوفر على كل ما يحتاجه كبار المطربين، من حلاوة في الحنجرة، وأذن واعية، ومساحة صوتية كافية، فضلاً عن معرفته التامة بالمقامات الشرقية ودرجات السلم الموسيقي.. وأكدوا أن صوته ينتمي إلى فئة (التينور العالي)، وهي الطبقة الأرفع بين طبقات أصوات الرجال، ولكنَّ مساحة صوته الممتدّة على مدى ( أوكتافين)، توصله بطبقة الكونتر التو، وهذا ما جعل صوته مبهراً وواضحاً وصافياً وقوياً في أدنى درجات (قراره).. بالمقابل، كان صوت عبد الصمد شديد الوضوح والقدرة على الوصول إلى قمة مساحته، دون أن يفقد أي قدرة على التعريب والمدّ والحركة والتعبير، فضلاً عن تمتعه بميزة لا يتمتع بها غيره، ألا وهي (طول النَّفَس)، ففي قراءته الفذّة لسورة «الفاتحة» مثلاً، يُجَوِّد السورة من البسملة حتى عبارة « إياك نعبد»، مع تكرار الجمل، وإبطاء في اللفظ، فتمتدّ التلاوة لمدة 45 ثانية متواصلة على نَفَس واحد .. !
لقد أغمضت عيني برهة، وأنا أفكر في هذه المقدرة والسحر الجمالي الأخاذ، وتخيلت الشيخ (المعمم) عبد الباسط وهو يغني : « زي الهوى يحبيبي زي الهوى.. « لكني سرعان ما رفضت الفكرة في الحال ، وقلت إن هذا الرجل خلق فقط ليجوّد بتلك الروعة، لاسيما حين يقول: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله» .. فيصبح صوته جسراً ضوئياً بين وهج السماء وظلمة الأرض .. لذلك أحبه الله وعشقته الملايين ..!