بقلم: رافع عبد الجبار القبطان ..
مما لا شك فيه ان الدستور العراقي الدائم لسنة 2005 ولد ولادة عسيرة، حيث كُتب في ظروف صعبة بالغة التعقيد، مع إرهاب يتجول في شوارع بغداد دون رقيب ولا خوف، وأسباب كثيرة أخرى، منها سقوط النظام السياسي في العراق أثر احتلال وليست نتيجة فعل وطني مخطط له، مما ولّد فراغ سياسي ودستوري، خاصة لم تكن الرؤية واضحة لدى سلطات الاحتلال في كيفية إدارة الدولة، ومن الأسباب مقاطعة الانتخابات من قبل السُنّة، كذلك من بين الأسباب ما فرضه قانون إدارة الدولة الصادر في 8 آذار/مارس 2004 من نصوص أُلزم تضمينها في الدستور الدائم في تحديد شكل النظام السياسي الجديد بأن يكون (اتحادي “فيدرالي” . ديمقراطي . تعددي)، وكذلك فيما يخص اقليم كردستان في تضمين المادة(58) منه في الدستور الجديد، ولهذا لم يأتِ الدستور بإرادة كاملة لكاتبيه ولم يحقق المرجو منه، لتجده جاء توافقيًا.
وبصدوره بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق برسم شكله السياسي والدستوري، حيث بدأ العمل به في 28 حزيران/يونيو 2004 بعد نقل السيادة للحكومة العراقية المؤقتة برئاسة الدكتور أياد علاوي.
ومن الأسباب المهمة أيضًا وتكاد تطغي على الأسباب السابقة، هو ارهاصات المرحلة، بين اختلاف الرؤية حول إدارة العراق لدى قوات الاحتلال من جهة، وبين ما جاءت به قوى المعارضة من اتفاقات وتصورات مسبقة، فكانت نتيجتها أن تأسس مجلس الحكم في 12 تموز/يوليو 2003 بقرار من سلطة الاحتلال برئاسة بول بريمر الحاكم المدني للعراق، ومنحه صلاحيات جزئية بإدارة شؤون العراق، والتي انتهت مهامه في 1 تموز/يوليو 2004، حيث تم حل مجلس الحكم لتحل بدلًا عنه الحكومة العراقية المؤقتة، في حين كانت سلطة الاحتلال تمتلك الصلاحيات الكاملة حسب قوانين الحرب والاحتلال المتفق عليها في الأمم المتحدة حسب قرار مجلس الأمن المرقم (1483) في 22 مايس/مايو 2003.
من خلال قراءة ديباجة دستور 2005 نجد حجم أزمة الثقة التي كانت حينها تعيشها الكتل السياسية التي قادت العملية السياسية وساهمت في كتابة الدستور وحجم التداعيات والتراكمات التي خلفتها الأنظمة السياسية التي حكمت العراق منذ 1921 تاريخ تأسيس الدولة العراقية من تهميش واستبداد لبعض فئات الشعب، والتي ألقت بظلالها عليه، لنجد ان الخطاب الفئوي طغى على ديباجته، التي تعد بوابة وواجهة تعكس فلسفة الدستور والقائمين عليه، فراحت ترسّخ صلاحيات الإقليم على حساب صلاحيات الحكومة الاتحادية وجعلها حصرية كما جاء في المادة (110) منه، ونست إنها رفضت سياسات الأنظمة السابقة ووقفت بالضد منها، ورفعت راية المعارضة بوجهها بسبب سياساتها الطائفية، في حين كانت ديباجة “قانون إدارة الدولة” أكثر نضجًا وتمثيلًا لعراق موحد من دستور 2005 الذي أسهب في تفاصيل مظلومية كل مكون، دون أن يركّز بالعنوان الجامع على ان النظام السابق كان نظام استبدادي لكل من يخالفه بغض النظر عن انتماءه العرقي أو الديني أو المذهبي، وجاء في ديباجة “قانون إدارة الدولة” (إن الشعب العراقي الساعي إلى استرداد حريته التي صادرها النظام الاستبدادي السابق، هذا الشعب الرافض للعنف والإكراه بكل أشكالهما، وبوجه خاص عند استخدامهما كأسلوب من أساليب الحكم، قد صمّم على أن يظل شعبًا حرًا يسوسه حكم القانون…)، رغم ان بداية ديباجة دستور 2005 أيضًا جاءت رائعة وهي تذكر الشعب العراقي كوحدة واحدة، وهو يقول (نَحْنُ أبناء وادِي الرافدينِ، مَوْطِن الرُسُلِ وَالأنبياءِ، وَمَثْوىَ الأئِمَةِ الأطْهَارِ، وَمَهد الحضارةِ، وَصُنَّاع الكتابةِ، وَرواد الزراعة، وَوُضَّاع التَرقيمِ. عَلَى أرْضِنَا سُنَّ أولُ قانُونٍ وَضَعَهُ الإنْسَان، وفي وَطَنِنا خُطَّ أعْرَقُ عَهْدٍ عَادِلٍ لِسياسةِ الأوْطان، وَفَوقَ تُرابنا صَلَّى الصَحَابةُ والأولياء، ونَظَّرَ الفَلاسِفَةُ وَالعُلَمَاءُ وَأبدَعَ الأُدَباءُ والشُعراءُ…)، إلّا انها فيما بعد ذلك نحت منحى آخر.
رغم ذلك علينا أن لا نغفل ولنكون منصفين جاء الدستور في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2005 دستورًا متقدمًا متطورًا قياسًا لدساتير المنطقة، وكتبه ممثلون عن الشعب لا لجنة تم تعيينها، جهد يُحسب للجمعية الوطنية التي كانت بمثابة المجلس التأسيسي، سواء بأعضاء لجنة كتابة الدستور الـ (70)، أم بمجموع الجمعية الوطنية الـ(275) نائب ممثلًا عن الشعب معرضين حياتهم لخطر الإرهاب، ومن ثم تم اجراء الاستفتاء عليه لينال ثقة الشعب دستور جديد، جاء ليؤسس لمرحلة جديدة من نظام سياسي جديد بعد فشل الأنظمة الملكية والجمهورية السابقة في تحقيق العدالة والمساواة بين أطيافه المختلفة، وفي استيعاب تعددية الشعب العراقي، ناهيك عن تجاوز سياسات الاقصاء والاستبداد التي مورست بالذات من النظام البعثي، جاء الدستور ناضجًا في كثير من فقراته، خاصة في شكل نظامه السياسي ليأتي (اتحادي/فيدرالي) ليتجاوز تهميش بعض مكوناته، ويمنحها الحق في إقامة إقليم تمارس حقوقها فيه بإدارة شؤونها بنفسها ويحمي حقوقها، وكذلك الباب الثاني باب (الحقوق والحريات) جاء ليضاهي الدساتير المتقدمة في منح الحقوق والحريات للشعب دون اضطهاد وتعسف من السلطة، وبهذا تجاوزوا حجم التحدي الذي واجه النظام السياسي الجديد في ظل تحدي الإرهاب والقاعدة، وفي ظل رفض اقليمي، فصارت الآمال تُعقد على أن يكون الدستور هو الحاكم، وهو القانون الأعلى للبلاد.
كما يًحسب له انه لاقى اهتمام غير مسبوق قياسًا للدساتير العراقية السابقة، اهتمام من قبل القوى السياسية والمختصين والأكاديميين ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك من المرجعية الدينية التي أولته اهتمامًا خاصًا جدًا، والذي كان للجميع له فيه بصمة، وكذلك لاقى الاهتمام من المحيط الدولي والإقليمي.
إلّا انه لا بد من الالتفات إلى ان كتابته بهذه الطريقة التوافقية التي فرضته ظروف التغيير السياسي صارت له نتائج سلبية على الدولة وعلى النظام السياسي، التوافقية التي تدخلت في كل تفاصيل الدولة، بدءً باستحالة تشكيل الحكومات من دون توافقية الكتل السياسية الممثلة لمكوناتها، -وإن جاءت هذه بدافع الخوف من تجارب الماضي-، هذه التوافقية التي صارت منهج في إدارة الدولة، فكانت من نتائجها أنه تم توزيع المناصب على ضوء انتماء المكونات الكبيرة وبنسب محددة ومثبتة دون مراعاة المكونات الأخرى والكفاءات كما انها فرضت انه لا يمكن أن تحاسب مسؤول من كتلة سياسية ما دون مراعاة تلك الكتلة السياسية، مما أدى إلى ضعف وعدم النجاح في إدارة مرافق الدولة، فكانت الخدمات المقدمة للمواطن ليست بالمستوى المطلوب، فصار ذلك محل رفض وتذمر من قبله، وما هذه إلّا نتيجة اتباع سياسة محاصصة كان الجميع في بداية كتابة الدستور يذمها ويسميها بـ(المحاصصة المقيتة).
هذا الخلل البنيوي في شكل الدولة وإداراتها صارت الحاجة ماسة إلى اجراء تعديلات على الدستور خاصة فيما يخص نظامه السياسي الفيدرالي، وسنّ القوانين التي تُحدد صلاحيات كل من الحكومة الاتحادية والاقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم، منها قانون مجلس الاتحاد، وقانون النفط والغاز، وقانون الموارد المالية .. وغيرها، عدم إجراء تعديل دستوري وسن هذه القوانين صارت اليوم هي العقبة الكبيرة في عدم ترسيخ شكل الدولة ونظامها السياسي، كما يمس مبدأ العدالة في إدارة الدولة.
ومن النتائج السلبية لهذه التوافقية وعقدة الخوف من الماضي هو موضوع التعديل الدستوري، حيث انه صار إلى ان تعديل الدستور لا يتم في حالة اعتراض تصويت ثلثين ثلاث محافظات كما جاء في المادة(142) الانتقالية من الدستور، ويسبقه توافق سياسي، وهذا خلاف مبدأ الديمقراطية بأن يكون تصويت الأغلبية هو الحاكم.
ورغم اننا مع ان النظام الفيدرالي هو النظام الأصلح للعراق، وهو الوحيد القادر على احتواء التعددية المجتمعية وتجاوز كل مشاكل الماضي، إلّا اننا مع نظام فيدرالي حقيقي يؤسس لدولة مؤسساتية موحدة متماسكة، لا لنظام غير واضحة هويته، حتى صار العراق وكأنه ثلاث مناطق مكوناتية.
هناك مواضيع كثيرة تستحق المراجعة، إلّا انني أكتفي بالتركيز على شكل النظام السياسي الجديد للعراق ومعوقاته، لما له من أثر على مستقبل العراق وحدته وسيادته واستقراره، ولما له اليوم من تأثير على استمرار النظام السياسي الجديد وضرورة المحافظة عليه.