بقلم: فالح حسون الدراجي ..
بعد أن انتهت زوجتي من أداء الصلاة، نظرت إليّ بعينين مغرورقتين بالدموع، دون أن تنطق بكلمة واحدة..
قلت لها : ما بك، ولماذا تبكين؟
قالت: بصراحة كنت أبكي عليك، فكلما أفكر بيوم القيامة وساعة الحساب، يوجعني قلبي خوفاً عليك..
قلت : لماذا ؟
قالت: لأنك لا تصلي ولا تصوم ولا تحج إلى بيت الله، وأخاف عليك من نار جهنم ..
ابتسمت لها، وانا أحاول أن اخفف من تراجيدية الموقف، فهذه المرأة الجنوبية الطيبة والنقية، تذرف دمعاً حاراً من أجلي لذا يجب أن أقول لها شيئاً لطيفاً.. فقلت لها ممازحاً: لقد حججتي بيت الله مرتين، اعطني واحدة من هاتين الحجتين إن أردتِ مساعدتي .. ؟!
قالت: ليتني أستطيع ذلك، فهذا الشيء الوحيد الذي لا أستطيع مساعدتك فيه. ثم ابتسمت وكأنها تذكرت شيئاً لتقول مستدركة: صحيح أنا خائفة عليك، لكن هناك أشياءً تبدد مخاوفي، وتجعلني مطمئنة بعض الشيء، ومن هذه الأشياء، أن الله غفور رحيم، وأنك إنسان طيب جداً، تحب الناس جميعاً، وتساعد الفقير والمحتاج، ورجل نزيه، لا تسرق، ولا تأكل المال الحرام، ولم تقتل أو تؤذِ إنساناً أبداً، وثالثاً، وهذا أمر في غاية الأهمية، أنك محب للإمام علي بن أبي طالب، ولك عين تبكي على الحسين بمناسبة وغير مناسبة، وهذه كلها تشفع لك عند الله يوم الحساب..
قلت لها: الحمد لله، وثقي أنا في غاية السعادة الان.. لملمت زوجتي سجادتها، وقالت لي بلهجة مؤثرة : -هل تعرف يافالح اننا، رغم مرور أربعين سنة على زواجنا، لم نتحدث في أمورنا الخاصة، بل ولم أطرح عليك سؤالاً واحداً من الأسئلة المهمة التي ظلت في رأسي حتى هذه اللحظة بدون اجوبة، حيث كنت احاول تأجيلها خوفاً من ان تسبب لك إزعاجاً أو حرجاً !!
قلت لها: وهل مازلتِ راغبة بطرح تلك الاسئلة ؟
قالت : بلى ..
قلت: إذن تفضلي واسألي.
قالت: إذا لم يزعجك ذلك
، لماذا صرت شيوعياً ؟
قلت لها: لأني ابن عائلة فقيرة، لم أجد غير الحزب الشيوعي صوتاً وفكراً يعبر بصدق عن آمال عائلتي، وطموحات وتطلعات طبقتي الكادحة.
قالت: وهل إن الشيوعييين جميعاً طيبون مثلك ياترى؟
قلت لها: نعم كلهم طيبون، وأطيب مني إذا كنت طيباً حسب ظنك.
قالت: أنا أعرف أن أغلب الشيوعيين العراقيين يحبون الإمام علي بن أبي طالب .. أليس كذلك ..؟
قلت لها: نعم بالتأكيد ..
قالت: لماذا يحبونه وهم ليسوا ( إسلاميين) ؟!
قلت لها: إن لهذا السؤال جوابين .. الأول، أن قيم وافكار وسيرة ونهج الإمام علي هي ملك عام ومشاع للإنسانية كلها – ولم يكن أبو الحسن حصة لهذا الدين، او لذلك الشعب قط، لذلك تجدين محبيه واتباعه ينتشرون بين مختلف الأديان والأقوام والملل. أما الجواب الثاني على سؤالك، فالشيوعيون يلتقون مع الإمام علي في طريق العدل والمساواة، والنزاهة، ونصرة المظلوم وعمل الخير دون انتظار الجزاء ،والحق، والوقوف مع الفقراء في نضالهم وجهادهم ضد مستغليهم، كما يلتقون معه في طريق المظلومية التاريخية التي تعرض لها الطرفان-مع الفارق طبعاً- ..
قاطعتني زوجتي قائلة:-هل صحيح أن الشيوعيين لايؤمنون بالله عزوجل ؟!
قلت لها: هذا غير صحيح، وهي دعاية تسقيطية معادية استخدمها سابقاً الرجعيون والبعثيون لعزل الجماهير الشعبية عن الحزب الشيوعي، وقطعاً فإنهم لن يتوقفوا عن استخدامها اليوم وغداً، وكلما تطلبت (الحاجة) ..!
إن الشيوعيين يا عزيزتي هم أقرب من غيرهم إلى الله الجميل الذي نعرفه ..
ولو بحثتِ العمر كله لن تجدي في جميع أدبيات وتراث وثقافة الحزب الشيوعي، سطراً واحداً يقول إن الشيوعي لا يؤمن بالله.. إنما هناك منظومة واسعة من الرؤى العلمية والمفاهيم والنظريات المتعلقة بالكون والطبيعة والمادة، والنشوء والخلق والإنسان والتطور وغير ذلك.. وكل هذه المنظومة تسبح في مياه المحيط العلمي فحسب، أي أنها لاتخوض في الشأن الديني او العبادات.. وطبعاً فإن الشيوعيين حالهم حال الآخرين، قد يختلفون مع بعض هذه النظريات، ويتفقون مع بعضها الآخر، وليس هناك جواب حاسم حول هذه القضايا الاختلافية والبحثية..
قالت: لديٌ سؤال سياسي لماذا لم يتسلم الحزب الشيوعي الحكم في العراق، بينما تسلمها حزب البعث مرتين، رغم أن البعث تأسس بعد الحزب الشيوعي بسنوات كما أعتقد ؟!
قلت لها: لأن الشيوعيين أناس شرفاء !!
قالت باستغراب: نعم ؟!!
قلت: سأوضح لك هذه النقطة: لقد كانت هناك فرص كثيرة وسهلة أمام الحزب الشيوعي لاستلام السلطة في العراق، لكن هذه الفرص لم تكن (نظيفة)، بمعنى أن استغلالها يتقاطع مع مبادئ واخلاق الشيوعيين وقيمهم، وهنا سأذكر واحدة من هذه الفرص: في عهد الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، اقترح أحد الضباط الشيوعيين على قيادة الحزب، اعتقال الزعيم عبد الكريم، وتسفيره إلى أي بلد يختاره، واستلام السلطة، علماً أن اعتقال الزعيم كان وقتها سهلاً، بخاصة وأن أغلب الضباط والمرافقين للزعيم كانوا أعضاءً في الحزب الشيوعي، او من أنصاره المخلصين.. لكن قيادة الحزب الشيوعي رفضت ذلك المقترح، رغم علمها أن البعثيين والقوميين كانوا يخططون للإنقلاب على ثورة تموز، وقد قال سكرتير الحزب وقتها: لسنا الذين يخونون حليفهم، ولا نحن الذين يغدرون بشريك نضالهم الوطني.. والزعيم قاسم حليفنا وشريكنا الوطني، فضلاً عن كونه قائد ثورة تموز، وأحد رموز الثورة وحركة التحرر.. لقد رفض الشيوعيون ذلك، لانهم يملكون قيماً وأخلاقاً ترفض الأفعال الغادرة.. أما البعثيون فقد غدروا وخانوا بأقرب الناس اليهم حين وصلوا الى السلطة مرتين، الأولى في شباط عام 1963، يوم جاؤوا بقطار أمريكي – حسب اعتراف أمين عام حزبهم علي السعدي- وكانت دماء المناضلين الشيوعيين، والوطنيين الأحرار، وقوداً لذلك القطار الأنگلو أمريكي.. أما المرة الثانية، فكانت بتموز عام 1968، وقصة الخيانة والغدر التي أوصلتهم إلى السلطة وقتها معروفة للجميع، بدءاً من خيانتهم لحليفهم النايف وجماعته، مروراً بغدر صدام حسين للرجل الذي رعاه وحماه وأوصله إلى ما هو عليه، وأقصد به الرئيس أحمد حسن البكر، أو الأب القائد كما كان يسميه صدام، ولم يكتف (الابن) بخلع ( أبيه ) من الرئاسة، إنما قام بتسميمه وقتله أيضاً، ولعل الصفحة الأكثر غدراً ودموية، ما قام به صدام من فعل غادر أيضاً بحق رفاقه أمثال عبد الخالق السامرائي وعدنان حسين
وغيرهم، في قاعة الخلد !
إن وصول البعث للسلطة بوسائط خسيسة ودموية، أمر يأنف منه الشيوعيون، ويرفضونه جملة وتفصيلاً مهما كانت المبررات لها.. إن المقدمات الصحيحة تفضي كما معروف إلى نتائج صحيحة، والعكس صحيح أيضاً. وبناءً على تلك الوسائل والمقدمات غير الشريفة التي وصل بها البعث إلى دفة الحكم في العراق، جاءت النتائج قاسية، بل وكارثية جداً، دفع الشعب العراقي ثمنها الباهض للأسف، وسيبقى يدفع هذا الثمن الفادح جيلاً بعد جيل ..!
قالت: بقي سؤال أخير .. بعد أكثر من خمسين عاماً على ارتباطك بالحزب الشيوعي (شحصلت) منه، وماذا ربحت ؟
قلت: لقد ربحت نفسي .. إذ ماذا سيستفيد المرء لو ربح العالم كله، وخسر نفسه؟!