بقلم : فالح حسون الدراجي ..
صديقي العزيز (أبو ظفر):
بعد ستة عشر عاماً على رسالتي الاولى، أبعث لك رسالتي الثانية، وفيها تجد بعضاً من الملامح والأسماء والاماكن التي وردت في رسالتي السابقة لكن فيها أشياءً جديدة أيضاً، من بينها أن هذه الرسالة ستصلك بمناسبة (يوم الشهيد الشيوعي)، وقبل أيام معدودة من حلول الذكرى التسعين لميلاد حزبك العزيز ..
لقد ذكرت لك في رسالتي السابقة بأننا لم نلتق من قبل، كما لم أنل للأسف شرف التعارف بك قبل استشهادك في الكمين الذي نصب لك ولرفاقك من قبل سلطات صدام الإستخبارية في 27/ أيلول/ 1984 .. لكني أود اليوم أن أتراجع عن ذلك الكلام، إذ من يقول إننا لم نلتق، ولم نتعارف، لاسيما وقد كنا نعيش في زمن متقارب، فأنت لاتكبرني بأكثر من خمس سنوات، كما كنا نعيش ونلتقي في دائرة فكرية وثقافية واحدة، ناهيك من أن أغلب رفاقنا وأصحابنا مشتركون، فيعرف بعضهم البعض دون شك.. فمن يضمن، أننا لم نسهر يوماً في بيت أحد هؤلاء الرفاق او الأصدقاء، أو لم نحضر معاً عرس أحد أحبتنا، وأقصد طبعاً قبل انهيار (الجبهة الوطنية)، وحلول (موسم الهجرة إلى الشمال)..! ومن يجزم- يا أبا ظفر- بأني لم أرك يوماً في أحد مقرات الحزب الشيوعي، وكيف لا تتوقع مثلاً، بأننا التقينا في بناية (طريق الشعب) بشارع السعدون، او ربما اشتركنا بسفرة طلابية او (شبيبية)
أو عمالية، من السفرات الحميمة التي لم يزل طعمها تحت اللسان، رغم كل مرارات الفجيعة التي توالت عاماً بعد عام؟!
يراودني في هذه اللحظة اعتقاد بأننا التقينا كثيراً.. وإذا كان اسمك الكريم: الدكتور (محمد بشيشي الظوالم) لم يمر عليَّ من قبل، لأنك ربما كنت تستخدم اسمك الحزبي بدلاً عنه، فمن المؤكد أن اسمي قد مرَّ عليك اكثر من مرة، باعتبار أن أسماء الشعراء والفنانين كانت متداولة ومشهورة آنذاك.
لذلك سأسميك صديقي، وأفخر بصداقتك، إذ من ياترى لا يفخر بصداقة نصير باسل وبطل حقيقي، لم يكتف بحمل (سماعة الطب)، بل حمل السلاح معها وهو يقاتل سلطة الدكتاتورية الصدامية..
ولا أخفي عليك عزيزي أبا ظفر، فحين أرسلت لي حبيبتك أم ظفر ويسار، صورتك، قفزت كالملدوغ حين رأيتها، وصحت دون شعور : هذا الرجل أعرفه، لقد رأيته كثيراً من قبل، ولكن أين رأيته يافالح، ثم سرعان ما توقفت، حينما تذكرت بأني ربما لم أرك شخصياً لكني رأيت وجهك في وجوه آلاف الشهداء (الحلوين)، لأن الشهداء متشابهون بالجمال حتماً..
عزيزي أبا ظفر: في يومكم – يوم الشهيد الشيوعي- أحييك وأحيي عشرات الآلآف من شهداء الحزب الشيوعي الميامين
مبتدئاً التحية بالشهيد الخالد فهد، ورفيقيه الأسدين بسيم والشبيبي، لتمر تحيتي العطرة على قوافل الدم الطهور، ذلك الدم الذي لم ينقطع حتى هذه الساعة..
قد يستغرب البعض، حين يراني أكتب رسالة إلى شهيد مضى على غيابه الجسدي اربعة عقود تقريباً، دون أن يعود إلى بيته، ورفاقه، (وسماوته).. وقد اُتهَّم بالجنون لو عَرفَ هذا البعض، كم أنا واثق من أنك ستقرأ يوماً رسالتي هذه، وسترد عليها أيضاً، ولك أن تقدر حجم الدهشة والإستغراب حين يعرف الآخرون أن الشهيد الذي أكتب له ليس مثل كل الشهداء، بخاصة وأنه فقد بظرف قتالي غامض ومبهم، لم تتحدد ملامح ذلك الظرف، ولم تتأكد نتائجه المادية، والنهائية..
فلا جثمان، ولا قبر يضم جسده الطاهر، ولا شارع يحمل اسمه، فمن يا ترى سيستلم هذه الرسالة، وعلى أي عنوان تذهب ؟! لاسيما وأن النصير الوحيد الناجي من مقاتلي (مفرزة الطريق) التي تعرضت لذلك الكمين الفاشي، لم يفد بشيء يخدم التحقيق، ولا حتى بمعلومة تستحق التوثيق، فمجمل الذي ذكره يشير الى أن عناصر المفرزة السبعة- بمن فيهم أنت-، استشهدوا جميعاً هناك..!! عدا ذلك، لم يقل شيئاً يمكن الإستفادة منه للإستدلال على مصير المفرزة، ولا عن عدد قتلى (الآخر)، أو عدد أفراد ذلك الكمين، وأظن بأن هول الصدمة، والمفاجأة، قد هشَّمت (الصندوق الأسود) لذاكرة ذلك المقاتل النصير، وأضاعت الكثير من المعلومات التي ربما يساوي وزنها ذهباً، مما فتح الباب الواسع أمام الأعداء والأصدقاء ليدلوا بدلوهم، فلا قياس لدينا، ولا مقياس يمكن أن تقاس عليه المعلومات.
وعدا بعض الكلام المبهم الذي يقال هنا وهناك، فإن كل ماقيل ويقال من اخبار، وروايات وكلام، يظل محض توقعات، وقصصاً منتجة عن مخيلات مُحبة، او كارهة، وثق – يا أبا ظفر – بأننا ماكنا سنتعرف على طولك الباسق، و وسامتك المبهرة، وقيافتك المهيبة، وأناقتك المتزنة، ولا على خفة ظلك، وحلاوة دمك، ومرحك (وأنت تستجيب رقصاً) مع إيقاعات حمودي شربة، في تلك الجبال الموحشة من ليل كردستان الطويل، ولا كنا عرفنا بسخريتك اللاذعة رغم انضباطك الحزبي الحديدي،ولا على التزامك العسكري المثير للدهشة وأنت تؤدي التحية لآمر السرية في معسكر التدريب، ولا عرفنا أنك – ورغم كل ذلك الالتزام والهيبة، ومناخ (وظيفة الطبيب الموقَّرة)- تناجي بكل علانية حبيبتك أم ظفر، حتى تكاد تبكي شوقاً وعاطفة لها !!
كما لا يمكن لنا أن نتعرف على اللمسات الإنسانية التي مسحت فيها على أجساد الأطفال المرضى في اليمن، وأنت تقبع الى جوار الربع الخالي (وما أدراك ما الربع الخالي)؟ أقول وقسماً بعينيك، ما كنا سنعرف فيك كل هذه الأفياء والظلال الطيبة، ولا اكتشفنا كل هذه الينابيع الفراتية الصافية فيك، لولا بساتين الوفاء، والحب، والمودة الجميلة التي زرعها في طريقنا اليك، رفاق دربك ومحبو نقائك وأبناء طينتك الفريدة، من الكتاب والأنصار مثل داود أمين (ابو نهران)، وحاكم كريم عطيه، وابراهيم معروف، فضلاً عن ما قاله عنك القائد الشيوعي جاسم الحلوائي (أبو شروق)، وغيرهم من المناضلين الأصلاء، ناهيك من تلك الإستذكارات الحميمية التي ( أدمنت ) عليها زوجتك الوفية بلقيس الربيعي وهي تناجيك في كتاب (تنحني لك الجبال)، او حين تكتب عنك في نهاية شهر أيلول – يوم استشهادك- ، أو في منتصف شباط – حيث يوم الشهيد الشيوعي، بل وتناجيك مثل حمامة دوح في كل شهر، وكل يوم وكل ساعة، وكل رمشة عين، فضربت بمحبتها لك رقماً قياسياً، وتقدمت بحبها وصبرها، وأملها على أغلب العشاق الصابرين، والمحبين المنتظرين ..
صديقي العزيز أبا ظفر :- لاشك أن هناك من يستغرب حين يعلم بأني اكتب رسالة ثانية لشخص قد رحل منذ اربعة عقود، ولم يبق منه غير عطر الماضي، المكتنز بمحبة الناس، وخاصة الفقراء منهم، والممتلئ بمودة الرفاق، واستذكارات الأصدقاء المخلصين، ولم يبق منه غير ذلك الإرث النبيل من الوطنية الحقة، والمبدئية، والإنسانية، والقيم النقية الطاهرة، التي تشحن ذاكرة القلوب، والأقلام فتدفعنا للكتابة عنه، لكنَّ هذا الذي يستغرب، ويعجب لكتابة رسالة لشهيد مضى إلى حتفه قبل عقود، قد نسي، أو تناسى بأن الشهداء أحياء خالدون في كل القواميس، والنواميس، وقوانين الأرض والسماء!!
ومادمتَ حياً لاتموت، كما يقول شيخ الثوار أبو ذر الغفاري : (الشهيد وحده في الدنيا لايموت)، فهذا يعني انك حي، تتنفس مثلنا، وتنام وتستيقظ وتحلم، وتحب مثلنا، لكنك فقط (لاتكره مثلنا)، لأن الشهداء لا يكرهون ..! وبما أنك تفرح وتبكي وتشعر، وتتذكر، وتفكر، وفيك كلَّ ما في الأحياء من لوعة وحرقة وعذابات، فهذا يعني أنك اشتقت لأحبائك كثيراً ، ولكن لمن تشكو شوقك، وليس معك في غربتك (أبو نهران) أو زهير الجزائري، ليتعاطفا مع شوقك الطافح، ولا ثمة (بلقيسك) فتستجيب لنداءات قلبك العاشق، وتذهب مسرعاً اليها في اليمن (بأجازة حب) ثم تعود لمفرزة الطريق ثانية. ومادمت يا أبا ظفر شيوعياً، فهذا يعني أنك وطني حدّ النخاع، ألم يقل فهد: “كنت وطنياً، وحين أصبحت شيوعياً، صرت أكثر وطنية” !!
ولأنك محب ومغرم،
فمن المؤكد انك اليوم، وهو- يوم الشهيد- بحاجة الى وردة حمراء، وأغنية حلوة، وقصيدة عذبة، فلتتدفق عليك في هذا اليوم المضيء بالأمنيات، قصائد الحب وأغنيات المحبة من أوتار الابداع النبيل، فأنت وكل الشهداء جديرون بوردنا، وحبنا، وشعرنا، وأغنياتنا..
هل تعلم يا أبا ظفر، بأني أكتب لك هذه الرسالة في يوم الشهيد الشيوعي، وشقيقي الشهيد البطل، خيون الدراجي (أبو سلام) وأخي ورفيقي وصديقي وخال بناتي الشهيد البطل خالد حمادي يقيمان بالقرب من جنان خلدك..
لذا أرجو منك ان تبلغهما سلامنا، ومحبتنا، وشوقنا، ودموعنا التي لا تنقطع…..
أتخيلك الآن يا أبا ظفر، وانت تقف شامخاً في موكب الشهداء الطويل تحمل في يدك شمعة تضيء بها طريق الشهيد سلام عادل، بعد أن قلع الطغاة عينيه المحبتين للعراق، فأفقدوا بصره، وأتخيل مواكب الشهادة العراقية تمشي معكم، متوسماً في قلبك الشوق الأكبر للحزب، الذي قدمت حياتك دفاعاً عن قيمه وشرف رسالته، وكأني أسمعك تردد مع سلام عادل تلك الأغنية:
” يالرايح للحزب خذني، وبنار المعركة ذبني
بركَبتي دين أريد أوفي … على أيام المضت عني) …
أخيراً يا أبا ظفر :- وددت أن أقول لك : بأن قتلتك مضوا الى مزبلة التأريخ، بدءاً من (صدام ) وانتهاءً بآخر قاتل ومجرم .. !!
وإذا ما قررت يوماً أن تعود لنا، فأهلاً بك في بغداد، والبصرة، والحلة، وكربلاء، وأربيل، والعمارة وعشرات المدن العراقية الطيبة، أما السماوة فمن المؤكد أنها ستحتفل بعرسكما- أنت وبلقيس مرة ثانية – وستخرج لكما الناس من (عجد دبعن) حتى حي ام العصافير أو حي (الرسالة)، وستجد كل أهلك ومحبيك بانتظارك، ولا تتعجب لو رأيت عمك الثائر البطل شعلان ابو الجون في مقدمة الركب، مثلما ستجد في مقر حزبك بالسماوة أجيالاً من الرفاق والرفيقات ، وفي أولهم تجد صاحبك (النصير) الشاعر الجميل اسماعيل محمد اسماعيل ومعه كل رفاقك القدامى، وستجد بينهم حتماً اولئك الذين ضاقت بهم السبل يوماً، فاضطروا الى النزول من جادة العمل الحزبي، لكنهم لم يخونوا راية الحزب قط، ولم يكفروا بزاده وملحه، وبعضهم عاد إلى صفوفه سعيداً.. أما أنا فقد كتبت لك، ولحزبك، ولهؤلاء العائدين لبستان المحبة، نصاً غنائياً ستسمعه حين تعود حتماً.