بقلم: هادي جلو مرعي ..
وفقا لمعطيات سابقة فإن الجدل المحتدم حول الإنسحاب الأمريكي من العراق ليس وليد المرحلة الراهنة. وفي مطلع العام 2020 إتخذ مجلس النواب قرارا ألزم فيه الحكومة بإتخاذ التدابير اللازمة لحمل الأمريكيين على المغادرة، ولكن تلك الجلسة التي عقدت بعد حادثة المطار الشهيرة لم يحضرها رئيس البرلمان السني، ولم يحضرها النواب الكورد، وكان التصويت مقتصرا على القوى الشيعية المتضامنة مع بعضها حيث صدر القرار الذي بقي في أدراج البرلمان الى وقت قريب. وطوال فترة حكم السيد مصطفى الكاظمي فإن أي إجراء واقعي لم يتخذ على الأرض. ومع مجيء حكومة السيد محمد شياع السوداني، وإستمرار المواجهة العسكرية، وإستهداف المواقع الأمريكية في أكثر من جغرافيا عراقية عاد الجدل مرة أخرى، وتصاعدت حدة التصريحات المتباينة. حيث لايبدو واضحا الموقف الأمريكي بالرغم من وجود مفاوضات معلنة، ولجان عسكرية مشتركة ،ولكن الأهم هو التباين في المواقف الداخلي العراقي بين المكونات الأساسية (الكورد والشيعة والسنة) الذين لايبدو أنهم متفقون على مطلب الإنسحاب لدوافع مختلفة، وبغض النظر عن الموقف الإقليمي من الوجود العسكري الغربي الأمريكي، لكن القوى الأساسية الداخلية لديها رؤية لاتلتقي مع بعض في هذا، وكل يسوق جملة من التصورات التي يراها موضوعية وصريحة في عدم وجود أرضية تمكن العراقيين من تجاوز بعض المصاعب والتحديات، ومنها التهديدات التي يمثلها تنظيم داعش الذي يتموضع في بعض الجغرافيا، ويقوم بهجمات من حين لآخر، ويربط متابعون ذلك بنوايا الإنسحاب الأمريكي، وخطورة التنظيم الإرهابي الذي يتموضع في مناطق قريبة من إقليم كردستان، وفي مناطق الجغرافيا السنية.
الإستعداد الأمني لمواجهة تحديات مابعد الإنسحاب في تصور قوى سياسية مختلف عن تصور قوى أخرى.. فالقوى الشيعية تشير الى وجود قدرات وإمكانات وإستعداد مع إن الأوساط الحكومية قد لاتكون مجمعة على ذلك، أو لايبدو إنها متحمسة للدفع بإتجاه الإنسحاب. في حين يتحدث الكورد بصراحة عن الحاجة الى وجود تلك القوات، وله مايقابله من تصور لدى القوى السنية. لكن هل إن الحاجة الأمنية هي الدافع الأساس لعدم وجود رغبة في الإنسحاب أم أن هناك أسباب أخرى؟ وفي الواقع يمكن التأكيد على وجود مخاوف من سيطرة الشيعة على السلطة بالكامل، وخشية الكورد والسنة على وجودهم السياسي والإقتصادي والأمني في حال أصبح القرار في بغداد بيد الشيعة، مع عدم وجود ضامن دولي كالولايات المتحدة الأمريكية، وإنحياز الفاعل الإقليمي الإيراني، وعدم وضوح الموقف التركي الذي لايبدو إنه مستعد لمواجهة مع إيران، ويعمل الجانبان منذ عقود على تنسيق المواقف حيال القضايا الإقليمية، وتوزيع مناطق النفوذ، ويحتفظ كلاهما بسجل حافل من الخلافات مع الأمريكيين والغرب عموما دون تجاهل إن تركيا تختلف بعض الشيء عن إيران في نظرتها الى الغرب، ورغبتها في الإندماج الميؤوس منه في الناتو والإتحاد الأوربي، مع الأخذ بنظر الإعتبار طبيعة النزاع مع اليونان التي هي جزء من كينونة الغرب عموما، وليس لديه أي رغبة في تقديم تنازلات لتركيا على حساب اليونان.
مع وجود وضوح في المواقف السياسية من الإنسحاب الأمريكي فإن الحاجة تصبح ماسة لبحث مخاوف كل طرف ورؤيته، وعدم التوجه الى منصات الأنترنت والأعلام لتبادل الإتهامات والتشهير والتسقيط، والبحث عن رؤية مشتركة، فهذا الأمر كبير وهو أكبر من تصريح على منصة إعلامية لأنه يتعلق بمصير بلد وبمكونات قومية وعقائدية، وحين يعبر طرف عن موقفه فهذا لايعني إنحيازا بالضرورة، وهو يريد أن يبين للشركاء موقفه ورؤيته ورغبته في تحديد المسار الذي يجب أن تسير عليه الأمور مستقبلا، ولابد من طمأنة كل طرف على مستقبله ووجوده في دولة مكونات وثقافات متعددة لاتسمح بالتفرد خاصة وإن التاريخ القريب يؤكد أن لاإمكانية لحكم فردي في هذا البلد الذي تتنوع فيه الثقافات والوجودات.