بقلم : فالح حسون الدراجي ..
أربعة ايام تفصلنا عن شهر رمضان الكريم، ومع حلوله يتطلع أكثر من عشرة ملايين عراقي (فقير جداً) إلى سلة الحصة الغذائية، وهم يأملون ويرجون ان تكون مفرداتها لهذه السنة مختلفة عن مفردات البطاقة التموينية المعتادة في كل رمضان، لاسيما وأن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، القادم من بيئة (فقيرة)، وعد العراقيين بسلة غذائية رمضانية جيدة، أو أقل مايقال عنها (دسمة).. وللإنصاف، فإن الرجل قد أبدى خلال فترة رئاسته للحكومة الحالية، نشاطاً ملحوظاً، وبذل جهداً محموداً في سبيل إنعاش أوضاع الفقراء، ورفع مستوياتهم المعيشية بمختلف الرافعات.. لكن، وكما يبدو، فإن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي، واليد الواحدة لا تصفق ..!
إذ ماذا يستطيع الرئيس السوداني ان يفعل وهو يواجه بمفرده مؤسسة لها متاريسها ومصداتها، ومخالبها.. مؤسسة متحصنة، (عريقة) في المقاومة الشرسة، توارثت الفساد، وتواصىت حيتانها بالحفاظ على هذا الارث (الماسيّ)، وعدم السماح لأيّ كان بالإقتراب من كيانها !..
لقد صُدم المتفائلون والمتأملون حين أعلنت وزارة التجارة مفردات بطاقة (رمضان) التموينية ، وقد وجدوا فيها ذات المفردات المعتادة في كل شهر من أشهر السنة، مع اختلاف بسيط تمثل في زيادة كيلو شعرية، وكيلو نشا، ونصف كيلو معكرونة، وكيلو طحين صفر – تثار حول نوعيته أكثر من علامة استفهام- وهي زيادة لا أهمية غدائية لها بالمرة..أما بقية مفردات (الحصة) فهي معروفة للجميع ولا أجد ضرورة لذكرها هنا، أو ذكر نوعيتها الرديئة، إذ بات الحديث عنها -برأيي- مملاً ومكرراً ومحبطاً جداً.
وبضرس قاطع أقول : إن السيد السوداني – رغم حزمه، ونزاهته، وثقته بنفسه، وبفريقه القضائي والوزاري، والاستشاري، لا يستطيع إسقاط مافيات العقود والصفقات والكارتلات التجارية، حتى لو وجه لها أشد الضربات، فالكارتل المتخصص بصفقات توريد مفردات البطاقة التموينية قديم، بل متجذر في القدم.. ومخطئ من يظن انه وليد حقبة السوداني، او فترة الكاظمي، او السيد عبد المهدي، او غيرهم.. إنما هو يمتد الى عشرات العقود.. وسيتفاجأ القارئ الكريم حين أكشف له بعد قليل تفاصيل غير معروفة عن أقدمية البطاقة التموينية، وأقدمية الفساد فيها.. لذلك فإن حديثي اليوم لا يخص وزير التجارة الحالي الذي نكن له احتراماً عالياً، ولا أجهزة وزارته الحالية، ولا أي شخص بعينه، إنما يخص أجهزة الفساد في وزارة التجارة بمراحلها المختلفة، لا سيما في ما يتعلق بنظام البطاقة التموينية .
وربما لا يعرف الكثيرون أن لبعض أجهزة هذه الوزارة والشركات، والشخصيات المتعاقدة معها، إرثاً فخماً، وقدرة هائلة في فن التلاعب والالتفاف على الضوابط، والتخلص من إشكالات المساءلة بشقيها القضائي المتمثل بهيئة النزاهة، والنيابي المتمثل باللجان النيابية المعنية.. ولعل اجهزة وزارة (التجارة) المختصة بتوفير الحصة التموينية، وتعاملها المتراكم والطويل مع شركات وشخصيات و(حيتان) عراقية واجنبية، لها فروع وأذرع ومواقع متشعبة في الميدانين التجاري والمالي، أكسبها خبرات كافية، كفيلة بإقناع أي رئيس وزراء بسلامة أدائها، و( نزاهة) عملها، وصواب موقفها، حتى لو كان رئيس الوزراء شخصاً مثل محمد السوداني، عارفاً بكل صغيرة وكبيرة في وزارة التجارة، بخاصة وأنه شغل منصب وزير التجارة بالنيابة بعد استقالة الوزير ملاس محمد عبد الكريم قبل حوالي ثماني سنوات ..
وللتوضيح أيضاً دعوني أقول، إن حديثي هذا لا يخص البطاقة التموينية الحالية وفسادها – نوعاً وكماً- إنما هو أبعد من ذلك بكثير، بدليل أن نسبة المسؤولين في وزارة التجارة الذين وقفوا بين يد القضاء، أو قبعوا خلف القضبان بتهم الفساد، تكاد تكون الأكبر بين نسب المسؤولين العراقيين ..!
وهنا اود أن ألفت نظر الكثير من الذين يعتقدون أن الفساد في البطاقة التموينية بدأ مع المسؤولين في حكومات ما بعد صدام، فالحقيقة تقول غير ذلك..فـ(نوعية) السلع في بطاقة صدام التموينية كانت أسوأ مما يتخيل المرء، وفضائح ومساوئ (الحصة) كانت محل نقد مر، واحاديث يتناقلها الناس خلف الابواب الموصدة، إذ لم يكن المواطن العراقي يحصل على حصته الحقيقية في نظام البطاقة التموينية منذ انبثاقها في أيلول 1990، حتى أن المقبور عدي – وهو ابن رئيس النظام- قدّم – مضطراً – في أواخر كانون الأول سنة 2002م، ورقة عمل فيها ملاحظات ناقدة، وانتقادات قاسية لوزارة التجارة، نُشرتْ في جريدة بابل آنذاك.. وجاء فيها نصاً: ( أن بعض مواد الحصة مغشوشة، ولا سيّما الزيوت والصابون والرز والشاي، والأوزان غير مضبوطة، والمواد الغذائية توزيعها غير مستقر، وصلاحيتها منتهية .. فهل هي خطة صحيحة..؟ ولماذا تترك وزارة التجارة، المواد لحين فقدانها صلاحيتها، ومن ثم تبدأ عملية توزيعها على المواطنين..؟) ..!
كما تعرض المقبور عدي في هذه الورقة إلى بعض الشركات المتعاملة مع العراق في برنامج النفط مقابل الغذاء، والعلاقات المشبوهة التي كانت تتم بينها وبين المسؤولين عن نظام البطاقة التموينية ..!
إذن، فإن الفساد الذي يلحق بمنظومة البطاقة التموينية لا يقتصر على (جماعتنا) الذين حكموا بعد سقوط النظام 2003 فحسب، إنما موجود منذ حكم صدام البوليسي.. وسأزيد القارئ من الشعر بيتاً قد لا يعرفه، وأقول إن البطاقة التموينية كانت موجوده في العراق منذ فترة الحكم الملكي، حيث كان العراق خلال الحرب العالمية الثانية مصدراً لتموين القوات البريطانية بالمواد مثل الحنطة والشعير والزيوت والتمور والنفط، مما أدى الى شحة هذه المواد في الاسواق، اضافة الى تأخر وصول المواد الاخرى كالسكر والأقمشة والأدوية والشاي بسبب الحرب ومخاطر الشحن، الامر الذي ادى بالحكومة العراقية الى اعتماد نظام تمويني يتمثل بتوزيع كوبونات تجهيز بواسطة وكلاء، واجبهم تسليم حصة كل مواطن عراقي مسجل لديهم، كما هو الحال في البطاقة الحالية
، وكانت مواد التموين في تلك الفترة تحمل صفتين، واحدة بمفرادات محدودة جداً (حنطة، رز، سكر اسمر، وقماش چوبان)، أما الثانية فكانت فيها المواد بنوعية رديئة، بحيث اطلقت صفات بعض المواد الرديئة على الحكومات، كما حصل مع وزارة صالح جبر التي اقترن اسمها بالحنطة السوداء، فسميت (حكومة الحنطة السوده)، أما الرز فكان من نوعية يطلق عليه العراقيون تسمية (الدگه) أي الرز المتكسر، وكان السكر يجهز بلون اسمر، وعلى شكل (كلات)، أي مخروط صلد يحتاج الى تكسير لغرض الاستعمال، ولونه ضارب الى الحمرة، والاسمرار .. أما القماش فقد كان بلون واحد ومن منشأ واحد، وهو اليابان، وبلون ازرق فقط، لذلك سماه العراقيون (چوبان) نسبة الى اليابان ..!
وكان الفساد حاضراً وقتها كذلك، سواء في التلاعب بقوائم المستحقين، او في سرقة المواد وبيعها في السوق السوداء، وهذا ليس كلامي إنما هو كلام ( التاريخ) الذي تناقله المؤرخون والإعلاميون.. لكن وللحق، فقد كانت درجة فساد وزارة التجارة أو (الاقتصاد) في العهد الملكي، أقل بكثير من درجة فسادها في العهود اللاحقة .
ختاماً أدعو ( ابن العمارة ) محمد شياع السوداني إلى منح فقراء العراق حصة رمضانية ثانية، تكون (وافية وكافية) لفطور الصائمين، وتحفظ لهم كرامتهم، فهي أولاً حق من حقوقهم، وهي أيضاً واجب وطني وشرعي يقع على عاتقه شخصياً، خاصة وأن سعر برميل النفط تجاوز اليوم الـ 83 دولاراً، والعراق يصدر ما يقارب الأربعة ملايين برميل يومياً، وهذا يعني أن الخزينة (متروسة) والحمد لله. كما إني أرى أن نصف كيلو (معكرونة)، الذي أضيف إلى البطاقة الرمضانية في عهدك يادولة الرئيس، وتسمى باسمك، أقل مما يستحقه العراقي، وأقل مما يستحقه اسمك، مقارنةً بمن سبقوك..!