بقلم : فالح حسون الدراجي ..
رغم الجرح الدامي والموجع، ورغم الألم الكبير الذي فطر قلبي برحيل الفنان العزيز كوكب حمزة، إلا أني وجدت في تعاطف الناس، وحزنهم بهذا الفقد، مواساةً لي ولكل من كسره هذا المصاب..
ولا أبالغ لو قلت إني لم أجد العراقيين بمثل هذا التعاطف والأسى ولا بمثل هذه الصدمة، أو هذا الاهتمام، كما وجدتهم اليوم في رحيل الفنان كوكب حمزة، وأيضاً في رحيل الشاعر كريم العراقي من قبل..
ولعل الشيء المهم في هذا الأمر، أن الحزن الذي غمر أفئدة الناس، والأسف الذي أبدوه عند سماعهم نبأ رحيل ( أبي أسامة)، لم يأتِ من قبل أبناء الوسط الفني او الثقافي فقط، ولا من أبناء البصرة، أو ناحية القاسم في محافظة بابل فحسب، كما لم يأتِ من أنصار الحزب الشيوعي او عموم اليسار دون غيرهم، على اعتبار أن كوكب كان بيرقاً من بيارق اليسار، وعلماً من أعلام الحزب الشيوعي العراقي، ولم يأتِ أيضاً من أبناء الأجيال السابقة فقط، إنما جاء – وهذا ما خفف من وطأة الأسى – من أبناء الشعب العراقي بمختلف أجيالهم، وعموم انتماءاتهم، وتوجهاتهم، ومناطقهم.. وقد لمست حجم وهول الصدمة وتأثيرها الكبير، من خلال ردود أفعال الناس الصادقة التلقائية، وعبر مئات التعليقات، والتغريدات والبوستات، والمقالات الحزينة التي نشرت على صفحات التواصل الاجتماعي، وكلها تنطق وتعبر بصدق عما يحمله العراقيون من مشاعر حب غير محدود لهذا الفنان الوطني الكبير.
لقد قرأت أكثر من نعي، وتعزية، وأكثر من تغريدة، كتبها أشخاص، أعرفهم جيداً، وأعرف أن بينهم وبين الموسيقى والغناء مسافة طويلة، بل أن لبعضهم مواقف سلبية من الفن والغناء أساساً .. لكنهم تجاوزوا تلك المواقف، وكتبوا في رحيل كوكب حمزة ما لم يكتبه أقرب القريبين اليه !
كما سمعت الكثير من الآهات والحسرات، وكلمات الأسف لرحيل كوكب حمزة، على ألسنة وشفاه فتية وشباب صغار في السن، لم يروا كوكب حمزة أو يلتقوا به من قبل، بل ربما لم يعرفوا مكانه وزمانه حتى، لكنهم عرفوا إبداعه، ووجدوا صدقه، ولمسوا حميمية عراقيته..
وهنا يجدر بي أن أذكر بعض رسائل المواساة، والمسجات (الحزينة) التي تلقيتها من أشخاص أعرف أنهم يختلفون كثيراً مع الفكر التقدمي، لكنهم أبدوا تعاطفاً وحزناً كبيراً برحيل الفنان (الشيوعي) كوكب حمزة، وهذا ما (فاجأني) فعلاً، وجعلني أفكر في الأسباب التي أنتجت كل هذا التعاطف الجميل، وهذا الحزن النبيل، وفجرت كل هذه المشاعر الطيبة، وأحدثت مثل هذه الصدمة المؤلمة لدى أشخاص، بعضهم يختلف مع كوكب حمزة في المنهج والرؤية والفكر، وفي خصوصيات الأجيال، واختلاف الأعمار أيضاً.. !!
وللحق، فإني طرحت هذا السؤال وأعدته على نفسي مرات عديدة، سعياً للوصول إلى جواب شافٍ وواضح ودقيق حول أسباب اختلاف التعاطف والاهتمام الكبير بين رحيل كوكب حمزة ورحيل غيره من كبار الفنانين والأدباء والسياسيين العراقيين ..!
وقبل ذلك سألت نفسي:
لماذا صُدم الناس برحيل كوكب حمزة وهو في الثمانين من عمره، خاصة وأن الإنسان – أي إنسان – معرض للموت في كل الأعمار، فما بالك حين يتجاوز عمره الثمانين؟!
هل لأن الناس مثلاً، يرون في الفنان صورة أخرى، صورة مغايرة للإنسان الطبيعي.. أو لأنهم يظنون أن الفنان كائن مختلف، وأن الفنان الحقيقي – أي مثل كوكب حمزة، أو من يشبه موهبته الاستثنائية- قد يتمتع بمواصفات ومميزات عالية جداً، وقد لا يخضع ربما لقوانين الزمن والطبيعة والفناء، وأن عمره لا يتحدد بضوابط وشروط، حتى لو كانت هذه الضوابط والشروط حتمية لازمة في الزمان والمكان ..!
وقد يعتقد البعض من الناس، أن الفنان – أي فنان- كائن ذو عمر متمرد وحياة خارجة عن (التغطية) والحسابات التقليدية ..!
ولأني لا أملك إجابة لهذه الاسئلة، إنما أملك شيئاً واحداً، مفاده أن كوكب حمزة يستحق هذا الحب وهذا التعاطف والاهتمام، فقد تركت الاجابة لمن يجد لديه الجواب ربما.. ولا أكشف سراً حين أقول: إني فخور جداً، بل و(سعيد) بما أراه من حجم الحب والتقدير الكبيرين اللذين يبديهما العراقيون لملحن وموسيقي في زمن بائس، بات فيه حمل آلة العود في الشارع العراقي، أخطر على حامله من حمل قنبلة، أو من ارتداء حزام ناسف.. ولعل سروري الأكبر يأتي من تعاطف المجتمع العراقي مع فنان (شيوعي)، غادر وطنه قبل خمسين عاماً، فينال حباً كبيراً في هذا الزمن الذي (يُكفرون) فيه المناضل الشيوعي الشريف، ويتهجمون فيه على المجاهد والثائر الذي ترك وطنه (مُكرَه لا بطل)،بينما يزكون المجرم الداعشي، ويبرئون ذمة القاتل الصهيوني السفاح !!
إن (صدمة) الناس برحيل كوكب حمزة مفرحة، بل يجب أن يُحتفى بها أولا، وأن تقرأ قراءة جيداً، وتحلل بعمق من قبل المختصين، فهي تصلح أن تكون محطة لانطلاق قطار التغيير في العقلية المجتمعية السائدة في العراق، تلك العقلية التي عششت فيها فكرة خاطئة وظالمة، كرّستها المصالح الضيقة، وحمتها الكراسي الفاسدة، وهدفها من كل ذلك إشاعة التخلف، ومحاربة الفن، وايقاف عجلة الفكر التقدمي، وتعميم وتعميق أسس الأمية والجهل عبر الترويج لبضاعة كاسدة وبائرة فوق رفوف الشعوذة ..!
إن الصدمة الشعبية بموت كوكب حمزة هي حق من حقوقه علينا، رغم أن الموت حق أيضاً، وإن أمره حتمي لا محال، بدليل أن شاعرنا الشعبي قال يوماً في أهزوجته (كل حي بالدنيا اعليه موته).. إلا أن موت ( أبي أسامة) لم يكن في زمانه ولا في مكانه، فنحن بحاجة ماسة لعوده، وألحانه، وقيمه، وشجاعته، وطيبته، وإنسانيته، وعراقيته المميزة.. وقبل كل ذلك، نحن والأجيال الجديدة بحاجة إلى مدرسته الاخلاقية والجمالية العالية.. أما أنا فأعتبر نفسي أكثر الخاسرين برحيله.. لأني صدقاً لم أشبع من حلاوة شخصيته، وروعة مودته، لاسيما وأننا لم نلتق أكثر من تسع مرات طيلة خمسين عاماً من علاقتنا وصداقتنا .. لقد كانت الظروف أقوى من أن نلتقي، وها هي تتدخل مرة أخرى، وتحرمنا من اللقاء مرة عاشرة ..
أنا اليوم حزين، ومكسور، فقد كان أملي أن نلتقي في الصيف القادم كما اتفقنا، ولكن ليس كل ما نتمناه يتحقق، ولا كل ما نخطط له يحصل.. إنها مشيئة القدر ..
أكتب هذا المقال الان، وأنا اسمع لكوكب وهو يصرخ بكل ما فيه من وجع:
” صار العمر محطات ..
عدّيتهن مامش عرف” ! !