بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لا يحق لأي شخص أن يتحدث عن أي شعب دون أن يكون جزءاً من ذلك الشعب، بحيث يعيش همومه ومعاناته، ويعرف خفايا الأمور وبواطنها، يتحسس آلامه ويستشرف غده.
وسيكون الحديث آنذاك مفرغاً من مضمونه، بعيداً عن معناه الأساس، إن لم يكن المتحدث نبضاً في صدر زمانه ومكانه و أهله وبلاده.
فهل يمكن مثلاً أن يتحدث عراقي أو أردني أو مغربي عن مصر، ويحلل مرحلة عبد الناصر سلباً أو إيجاباً، فارضاً قناعاته على الشعب المصري، مصادراً أفكار وتصورات وآراء المصريين عن تلك الحقبة الزمنية!، وهو لا يعرف خلفيات الأمور، ولا يفهم تفاصيل الحياة وخباياها ومفاصلها المصرية ؟
والشيء نفسه يقال عن الحال في حقبة السادات أو حسني مبارك أو السيسي أو غيرهم، إذ لا يمكن لغير المصري أن يعرف أحوال مصر ..!
كذلك الحال مع المصري الذي لايحق له أن يتحدث نيابةً عن الجزائري، ولا الأخير عن السعودي، ولا أي شخص عن شعب لا ينتمي له ويعيش معه.
فالشعوب هي أدرى وأعرف بأحوالها، وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال في المثل المشهور. لذا، نرى أن اندفاع بعض العراقيين و بعض العرب حتى!، للدفاع عن نظام صدام حسين، جزء من تدخل ذميم وغير أخلاقي بل وغير علمي أيضاً، فهم لا يعرفون ما نعرفه عن صدام ونظامه الإجرامي القمعي الدموي، ولم يذق العرب جزءاً بسيطاً مما ذاقه العراقي من إجرام وطغيان وعسف ذلك النظام الفاشي. ولا قاسوا ما قاساه شعب عاش الحروب البربرية والحصارات والمجاعات والمنافي والتشريد والتنكيل والإخفاء القسري على يد صدام وعصابته البعثية، وعانى ما عاناه من ويلات التسلط القبلي المتخلف.
بل نكاد نجزم أن ما ارتكبته الحقبة الصدامية بحق الشعب العراقي لم يرتكبه هتلر بكل تاريخه الإجرامي الحافل.
نسوق هذه المقدمة للحديث عن اندفاع ودفاع بعض العرب، كالأردنيين مثلاً عن النظام الملكي المباد في العراق، وهو حديث لا يخلو من لمز وهمز وغمز تافه.
والكلام ذاته يقال عن العراقيين الذين ولدوا بعد أكثر من ستة عقود على سقوط النظام الملكي، فما يفصلهم عن النظام الملكي الذي ثار عليه الشعب العراقي منذ زمن طويل، وما استعادة الحديث عنه إلا جزء من سياسة نكأ الجراح والتعمد للرقص على ذكريات غابرة عانى منها الشعب العراقي الأمرَّين. فهؤلاء العراقيون واولئك الأردنيون لا يعرفون ماذا كانت تعني سنوات العهد الملكي لذاكرتنا الجمعية، تلك السنوات المظلمة التي عششت فيها ويلات الفقر والفاقة، والأمراض والأمية والتخلف، والقمع والتعذيب والاضطهاد والتمييز الديني والقومي والعرقي أيضاً.. إذ لم تكن تلك السنوات وردية وعهداً ديمقراطياً كما يصف البعض، بل على العكس، فقد كان العهد الملكي عهداً سوداوياً بكل ما تعنيه الكلمة..
إن امتداح العهد الملكي برأيي يعد تجنياً على التاريخ وتزويراً للحقيقة، وإذا كان ذلك العهد وردياً وديمقراطياً كما يقولون، فلماذا ثار عليه الشعب العراقي عدة ثورات، وانتفض عليه مرات عديدة، ومن يقرأ التاريخ سيجد أن في كل مقطع من مقاطع ذلك الحكم ثورة عليه هنا أو انتفاضة عليه هناك.
حتى أصبح شعار “نوري سعيد القندرة.. وصالح جبر قيطانها” ،هتاف تلك المرحلة وعلامة دالة على وضع الشعب الذي لم يرَ في تلك الطغمة إلا حذاءً للمستعمر الأجنبي، وصيغة هشة للتعبير عن حالة شاذة، ونوع حكم شكلي، يخلو من مقومات النظام الوطني المعبر عن آمال وتطلعات الشعب.
اللهم، إلا امتلاء ذلك النظام بالقمع والتنكيل والتشريد لأبناء الشعب العراقي، خصوصاً بعد اغتيال الملك غازي، وتسلط الوصي الفاسد عبد الإله، الذي ملأ وسوّد سجلات ذلك العهد بظلم السجون والمعتقلات والإعدامات لرجال الحركة الوطنية الذين طرزوا طريق الخلاص بالدماء وفي مقدمتهم الشهيد فهد ورفيقاه حازم وصارم.
لذا نستطيع القول بفم ملآن إن”إطلاق النعوت على عهد ارتكبت فيه كل الموبقات السياسية والاقتصادية، ونُكل فيه برجالات العراق، ومنح الإقطاع وأذنابه الضوء الأخضر للانقضاض على الفلاح وسلبه قوته ومؤونته، وتشريده، وتكبيل العراق بأحلاف ومعاهدات ظالمة، وما يتفوه به البعض هذه الأيام هي جزء من سياسة غسيل الأدمغة التي تمارس لأسباب سياسية وطائفية بشكل واضح”.
إن الباحث المحايد الذي يريد أن يعرف خلفيات وبواطن الأمور عليه أن ينصرف لقراءة ما دونته الصحف والمجلات والمخطوطات التي كتبها أناس خارج متن السلطة الملكية ليرى كمية الفساد المالي والإداري والأخلاقي الذي كانت تعاني منه الأمة آنذاك، وكيف كانت تعيش الطبقات الاجتماعية المسحوقة، باستثناء نخبة الحكم التي يقول عنها حنا بطاطو، أنها أبتّ أن تتخلى عن مكتسبات غير مشروعة حققتها بالاستفادة من القرب من الإنجليز ورجال الحكم المعينين منهم.
وبالعودة إلى أي مدونات عن تلك الحقبة سنرى العجب العجاب، من إعدام العقداء القوميين الاربعة، إلى مذبحة (سميل) التي ارتكبها النظام الملكي بحق شعبنا الآشوري، إلى مجازر كاورباغي وجسر الشهداء في وثبة كانون وجرائم اجهزة بهجت العطية الامنية الدموية التي ارتكبت في إضرابات العمال في البصرة وكركوك وبغداد، إلى مذبحة سجن الكوت وبعقوبة، وبقية سجون العهد (الوردي الديمقراطي) ..!
وللتاريخ فإن تجربة التعذيب الوحشي، قد ابتكرها وابتدعها كلب النظام الملكي بهجت العطية، بدءاً من استيراد أساليب قمعية ضد المعتقلين السياسيين حتى الموت، كقلع الاظافر وصب الماء الحار وتكسير العظام، وانتهاءً بوضع السلاسل وكرات الحديد الثقيلة بين اقدام السجناء طيلة فترة سجنهم الطويلة والمؤبدة..!
أما عن النظام الملكي الدستوري، وإفراغ البرلمان الملكي من مضمونه وفكرته فحدث بلا حرج.. إذ استأثر الطاغية نوري السعيد بالحكومات الواحدة تلو الأخرى، حتى حطم الرقم القياسي بتشكيل 14 وزارة، أُسقطت أغلبها إثر احتجاجات شعبية وأحداث ساخنة.
كل هذه الكبائر التي ألحقها ذلك النظام، فضلاً عن إسقاط الجنسية العراقية عن الكثير من الشخصيات الوطنية الكبيرة، وغيرها هي من ( منجزات العهد الملكي).
وطبعاً فإن هذه الأساليب القمعية والاستيلائية ظلت متبعة بشكل أقسى وأفظع في نظام صدام حسين القمعي والقبلي، الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقارنه بأي نظام سبقه، سواء أكان النظام الملكي او الجمهوري العارفي، ولا أي نظام سيلحقه، لإن إجرام صدام فاق كل الحدود ولا يمكن أن يقارن قطعاً مع النظام الملكي ..
لكن هذا لا يعني أن النظام الملكي كان نظاماً شفافاً ووردياً ووديعاً، بل كان نظاماً شرساً وصعباً، ولديه من الأساليب القمعية مما يعجز أي صاحب قلم أن يحصرها بمقال قصير.
لذلك يمكننا أن نختم حديثنا هذا بكلمة فصل، و هي أن الاجتزاء و محاولات الاسقاط غير المنطقية هي أساليب فاشلة، لا تخدم الحقيقة و لا تؤمن أي قدر من الموضوعية، وهي ليست اكثر من محاولة غرس لمثل هذه المفاهيم في أذهان عامة الناس، وهي جزء من مخطط طويل يهدف لتبرئة الأنظمة القمعية المجرمة، و تجريم ضحاياها..
أقول هذا الكلام ولا أبخس حق ودور بعض الوزراء المهنيين الذين استوزرهم النظام الملكي في حكوماته المتعاقبة، ولا بعض الشخصيات الوطنية التي لمّع بها نظام نوري السعيد وعبد الاله وصالح جبر وجوههم الكالحة ..
ختاماً أقول: لماذا أطلق الشعب هتافه الشهير: “نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانها”، إذا كان الباشا أبو صباح ونظامه ديمقراطياً ونزيهاً وشريفاً وعفيفاً جداً ؟!