بقلم : مظهر محمد صالح ..
مازالت ظهيرة يوم السادس من ايلول /سبتمبر 1971 تجسد في مخيلتي تراجع الحياة وهي تفقد صبغة آدميتها وتكبل أنفاسها بسحب داكنة لفها ظلام كان نهاره ساخن ، لم ينفك وهو يلامس نهايات يوم عاصف بهتت الوانه في فناء التوحش ، انه مسار رتيب مرعب اثقل سير ارجلي بين باحة السجن وزنزانات الموت وهي اقبية ظلماء طوقت جانبي ارض القصر
من كل صوب، لتحل الكلفة بقوة محل اية ألفة لامست سنوات طفولتي وصبايا الماضية.
فالسعادة التي ترعرعت في قلبي والزهو والامل الذي علا بنيانه قد ابتلعه ظلام قوي جاثم الفتور ، وهو يصرخ في سلالم انفاسي ويعانق موجات سالبة صامتة اسمها اليأس .
هنا تلمست دموعي كي امسحها من بين وجنتي فوجدتها قد تحولت الى ابخرة قوامها عذابات الصراع الناشب في اعماقي .
وهكذا تقلبت الحياة على مدار نصف قرن ونيف من الزمن وتحولت تلك الذكريات، لتحاكي ايام
قضيتها قبل ثلاثة وخمسين عامًا في ضلال زنزانات سجن رهيب في بغداد اسمه قصر النهاية . ولم يفاجئني بعدها وانا اطالع ادب السجون سوى رواية كان عنوانها شرق المتوسط وبشخص كاتبها الروائي والاقتصادي الراحل عبد الرحمن منيف .
اذ شاءت الصدف والاقدار وبعد حصولي على درجة الماجستير في علم الاقتصاد في صيف العام 1976، ان يتم اختياري من بين الخريجين المتفوقين للعمل في واحدة من مؤسسات الحكومة العليا المعنية في رسم السياسة الاقتصادية .
وعلى الرغم من قصر المدة التي تعاطيت فيها العمل الاقتصادي مع الروائي الكبير عبد الرحمن منيف ، الا ان إمارات الصمت كانت فسيحة بيننا مثل الحصاد الاخرس في حقل قمح لانهاية له ، حيث كان الخوف يعقد فوق رؤسنا ظلالاً حزينةً من الاسى ، وعلى الرغم من ذلك كانت عيناه تكلمني باستمرار :ان الحرية والوطن هما شيٌ واحد ،وان احلام الليل التي قضيتها ايها الشاب في سجن القصر الرهيب قبل سنوات هي اقسى من عذابات النهار ، فما عليك الا ان تبتسم ، فالابتسامة هي ارادة وان كانت حزينة.
ففي اعشاش ذلك الصمت العاصف كانت رواية عبد الرحمن منيف الموسومة : شرق المتوسط في
رمزيتها والغازها وعذاباتها ، تجسيدًا لأيام سجون شرق المتوسط ولياليها الدامية، و بمثابة عالم من الاقتباسات القاسية التي جسدت الحزن الانساني الناتج عن الاستبداد في اوضح صِوره.
ومن دون العبث في فسحات العقل البشري ونزهته ،فقد اقام القصر في مخيلتي طوعاً او كرهاً سجناً مظلماً في زنزاناته و محجراً محكماً في اقفاله ، ولا ترى من نافذته الصغيرة سوى سجان ابله يحمل سوطاً في يده ليسلب حياة من يريد وفي سيل جارف لا ينضب من اللاآدمية .
وهكذا ،تمر اليوم الذكرى الثالثة و الخمسين في معتقل قصر النهاية ، وهو المكان ذاته الذي قتل فيه آخر ملوك العراق فيصل الثاني وعدد من النساء الهاشميات العزل في مجزرة سالت دماؤها دون توقف لعقود زمنية طويلة، لكي اتذكر مرارات السجن وعذاباته ، والتي جسدتها عبر السنوات في ثلاثية من السرد الواقعي كانت عناوينها الرمزية تطوي صراخ دواخلها وهي :
ميشيل فوكو حوار لاينقطع ….وفي انتظار كافكا ….وآخرها صمتاً كانت ..قصر النهاية.