بقلم : حسين الذكر ..
وقع صوته لا يشبه بقية أقرانه ، ولا ما يعرفه أهل مملكته .. حيث حباه الله صوتاً رخيماً ، وموسيقى عذبة مع جمال أجنحته وشكله ،ما جعله مطمعاً للصيادين والحفاة والرماة .. هكذا اطلعت على سريرة البلبل في أول تغاريده التي عشقتها منذ زمن بعيد ، وكأنها تداعب خاطري ، وتنتشي بها روحي وقلبي ..
في واحدة من صباحات لا أنساها .. وجدته يقف على جدارنا الصامت الأجرد من كل شيء حتى من صخب العصافير .. جراء ما مر به بيتنا من ظروف عصيبة ، ويوميات معقدة شديدة الوقع حد الاعتصار ، وعسر الهضم .. لكن جمال منظر البلبل الحاطّ على غير العادة فوق جدارنا جعلني أقف مرتجفاً محاولاً اصطياده من دون الخوض في الأسباب والتداعيات .. الأهم أن يقع هذا الجميل الحر بين قبضة يدي ، ويدخل مملكتي الفارغة إلا من حب وأمنيات ، وبعض الدفاتر عتيقها وجديدها .
فكرت ملياً بكيفية القبض عليه بعد أن أصدر الضمير قراره بضرورة الضم بلا منازع ، ومن دون شوشرة ، فالتنفيذ واجب ، والقلب وجل حتى أدركه بين أناملي ، وأضعه بين محتوياتي التي لا محتوى فيها إلا من ذوق ما زال عاثر الحظ قابعاً في مسالك الجهل موغلاً بلا قرار وخارطة ..
المشهد برمته لم يطُل حيث مرت سيارة أمام بابنا أحدثت ضجيجاً طار على إثره مطلبي ، وعشت في دوامة جعلت نهاري مظلماً برغم حر الصيف الساطع ، ولهيب أشعته الذي لم يحرك ساكناً بي ، ولا أثر جفاف الأمنيات المحلقة وجفلها عني بعد أن طار بلبلي .
كان القلق يراودني حتى في المنام ، بل إن طيفاً منه خالج أحلامي حينما نعست عيناي ، فسمعت أنغامه مرة أخرى تملأ الزمكان .. حاولت أن أقفز في الاتجاهات كلها ، محاولاً الحصول عليه بأي ثمن ،فلم أعد أرى من بقية المخلوقات شيئاً سواه .. كم تطلعت تغلغلت في الماضي والحاضر لعلني أقبض عليه .. لم أجد مكانه ، سمعت ترانيمه ، موسيقاه ليست حزينة ، لكنها تحمل شجناً ما ، وإن كان فيه بعض الإغراء الذاتي لمنلوج غائص عصي الفهم .. هنا أدركت معاناة الفراق عنه ، قفزت بصرخة صحا على إثرها الأهل والجيران والأقارب والعالم برمته ، إلا الضمير بقي سادراً في متاهاته ، ما زال لم يصفِّ حساباته ، فأدركت أن محاولاتي فاشلة في ظل ضمير لا حياة فيه .
في اليوم التالي أخذتني قدماي ، أختط الطريق ذاته لعلني أجده على الإثْر ، أو أشعر بأثَره .
لم أتمالك نفسي ، بكيت تلك اللحظات التي كان فيها في المتناول، وها قد أصبح من الأمنيات الشاردة .. خرجت أبحث في البراري والحدائق والجنان .. صعدت القمم ، ونزلت الوديان ، شاهدت كثيراً ، والتقيت ملايين الطيور المشابهة ، وبعضها شاطرني الأسى ، وقدم نفسه طوعاً كبديل محتمل .. إلا أن مداركي لم تعد تعي إلا تلك اللحظة الجدارية الصباحية ، ولم تشفِ مسامعها ، ولا يطيب خاطرها إلا بتلك المقطوعة التغريدية البريئة التي عزفت على السليقة .
مرضت وضعفت ، وأدرك العالم سبب علتي ، لكنهم أخفقوا في مداواتي ، بعد أن تلقيت نصف أدوية العالم الذي غصصت بأغلب وصفاته .. مرت من قربنا عصفورة حكيمة همست في أذن أمي .. لا تخشي على الولد لن يموت ، فإنه يتبرعم ؛ إذ هناك مخاض أرضي آن له أن ينجب الآن .. وإن تعددت أسباب الموت وانحسرت فرص النجاة ّ!!