بقلم: مظهر محمد صالح ..
في نطاقات انحدار التذكر وطي العقل الفردي في حاضنة النسيان الجمعي، تظهر الشعوب مرارات سكونها في مسالك وعرة من التعاطي مع ذكريات الماضي ولاسيما القاسية منها .
وهنا تأخذ الذاكرة قصيرة المدى انحداراً الى مفهوم ضيق يتمثل بالقدرة على تخزين كمية صغيرة من المعلومات في العقل وإبقائها متاحة بسهولة لفترة قصيرة من الزمن ،وتُعرف أيضًا بالذاكرة الأولية أو النشطة.
اما على صعيد الشعوب والامم فينصرف مصطلح “الذاكرة القصيرة ” إلى ميل المجتمعات الى نسيان أو تجاهل الأحداث التاريخية الكبرى أو الدروس المستفادة من التجارب السابقة بسرعة نسبية.
فإن هذه الظاهرة قد تكون مرتبطة بعوامل عديدة ، منها التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية .
ففي فترات التغيير السريع، تفضل الشعوب التركيز على (المستقبل ) بدلًا من التمعن في (الماضي) ولاسيما إذا كانت التجارب السابقة مؤلمة أو معقدة.
كذلك هناك مايسمى (بالذاكرة الجمعية) و التي يمكن أن تكون ذاكرة متحيزة أو منتقاة، حيث يتم تذكّر بعض الأحداث بشكل أكثر وضوحًا من غيرها وفقًا للأيديولوجيات السائدة، دون اغفال دور وسائل الإعلام الكبير والمؤثر في تشكيل الذاكرة العامة.
فقد تركز تلك الوسائل على أحداث جديدة بسرعة، مما يجعل الناس ينسون الأحداث الماضية ، ذلك ضمن سياسة التجارب مع الإنكار والتجاهل المتعمد . كذلك قد تسعى بعض الأنظمة السياسية أو الفئات الاجتماعية إلى نسيان أو محو أحداث معينة لأسباب تتعلق بتجنب المساءلة أو الحفاظ على مرتكزات السلطة او النفوذ.
ففي مجال ( القدرة ) على تخزين المعلومات ، فقد بين عالم النفس جورج ميلر Miller G Aفي بحثه الذي نشره في المجلة العلمية Psychol Review في العام 1956
موضحاً كمية المعلومات التي يمكن تخزينها في الذاكرة قصيرة المدى. اذ إقترح ميلر في ورقة بحثية جاءت بعنوان “الرقم السحري سبعة، زائد أو ناقص اثنين – The magical number seven plus´-or-minus two: some-limit-s on our capacity for processing information
أن الناس يمكنهم تخزين ما بين خمسة وتسعة عناصر في الذاكرة قصيرة المدى.
كما يشير الاستاذ في علم النفس .Cowan N في بحثه المنشور في العام 2008 بمجلة Prog Brain Res و الموسوم : ماهي الفروقات بين الذاكرة العاملة من جهة والذاكرة القصيرة والطويلة الاجل من جهة اخرى؟ اذ يوضح Cowan إلى أن الناس
لديهم القدرة على تخزين ما يقرب من أربع قطع من المعلومات في الذاكرة قصيرة المدى.
فعلى سبيل المثال، يذكر Cowan عندما تتخيل أنك تحاول تذكر رقم هاتف ، فيقوم الشخص الآخر بسرد رقم الهاتف المكون من 10 أرقام، وتقوم أنت بتدوين ملاحظة سريعة في ذهنك ،بعد لحظات تدرك أنك نسيت الرقم بالفعل ،وبدون التدرب أو الاستمرار في تكرار الرقم حتى يتم حفظه في الذاكرة، يتم فقدان المعلومات بسرعة من الذاكرة قصيرة المدى.
ففي عالمنا المشرقي الذي ابتلت بلدانه بصراعات الحروب والاحتلالات والانقسامات العرقية والطائفية، فان ذاكرة الشعوب ،التي تحت ضغط الاحداث قد امست مسكونة في الذاكرة القصيرة .
حيث اطلق المفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقال مهم كان عنوانه :تشوهات الذاكرة السياسية في العراق -2 مبيناً بالقول(….وخيانة الذاكرة امر شائع بمعنى ان الذاكرة تخفق في استحضار المعلومات لاسباب عديدة ،الامر الاهم الذي يخص الذاكرة السياسية بالتحديد، هو التحيز والعزو الخاطيء المتعمد ،وليس اللاشعوري ،
فالتحيز عملية قصدية يقوم بها الفرد حينما يستدعي الاحداث والوقائع التي تدعم حججه ويحاول اسدال الستار على الاخرى، او المكملة او نصف الحقيقة الاخر، لانها لاتنفعه ،يتذكر العراقيون او قل المتحدثون السياسيون والاعلام المرتبط بهم ، سوءات وعيوب وموبقات وخطايا التاريخ السياسي للانظمة والحكام والاشخاص ، ويعيبون عليهم اخطائهم وجنونهم وبداوتهم واستبدادهم ،لكنهم يتعمدون اغفال السرد المتعلق عن النمط العائلي او العشائري او الاعتباطي في ممارسة الحكم والسلطة ،فيتم التركيز على عيوب وجرائم وصفات، ويتم السكوت عن عيوب اخرى ،فمن ابتلي بتقديم عائلته والاقربين له عشائريا وحزبيا لايسعه تذكير الناس بجريمة السابقين في احتكار السلطة وتوريثها واستغلالها شخصيا ،ومن يمارس السياسة بطريقة بدائية ويقصي اهل الخبرة والدراية والحكمة ويقدم اهل الهتافات والمهاويل ، لايمكنه ان ينتقد ويدين من سبقوه الذين ساروا على نفس الشاكلة، بل يسعى للبحث عن عيوب فاقعة للاخرين الماضين ويغطي على تلك الخصائص في شخصياتهم التي يكررها هو ذاته ،وهذا هو التحيز في استعمال الذاكرة ،انها السردية المتحيزة التي تخفي جزء من الحقيقة وتسلط الاضواء على الجزء الاخر )).
وهكذا ما يمكن استخلاصه ان الذاكرة القصيرة يمكن أن تؤدي إلى تكرار الأخطاء أو عدم الاستفادة من التجارب السابقة في بناء مستقبل أفضل. فالدورات التاريخية المتكررة: التي افرزت أنماط معينة من الحكم الاستبدادي أو الصراع الطائفي، قد تؤشر إلى أن الشعوب في عالمنا المشرقي لم تستوعب دروس الماضي بالكامل، سواء بسبب قمع المعلومات أو قصر الذاكرة الجمعية كما نوهنا آنفاً . كذلك فان القضايا الهوياتية والطائفية تؤدي دوراً خطيراً في تكريس ظاهرة قصر النظر . ففي بعض الأحيان، يتم تضخيم الهوية الدينية أو الطائفية على حساب الذاكرة الوطنية الجماعية. اذ يمكن ان تغطي الصراعات بين الطوائف والهويات المختلفة على الأحداث التاريخية المشتركة التي تربط الشعب ببعضه.
كما يعلمنا التاريخ البشري حِكماً و دروساً في التربية النفسية كي تبنى خطط التذكر و تخطي الذاكرة القصيرة الاجل . فعلى سبيل المثال ، هناك استراتيجية للتذّكر، يعود تاريخها إلى حوالي 500 قبل الميلاد، وهي طريقة المواضع. حيث تتضمن طريقة المواضع ، وضع العناصر التي تحاول تعلمها أو تذكرها في ذهنك في جميع أنحاء الغرفة – مثل الأريكة، أو بجوار نبات، أو على مقعد النافذة. لتحفيز ذاكرتك، تتخيل نفسك تذهب إلى كل مكان، مما يؤدي إلى تحفيز تذكرك لهذه المعلومات.
فاذا كانت استراتيجيات التذكير هي هكذا قبل الميلاد ، فمن الاولى ان تكون للثقافة العضوية او المثقف العضوي Organic intellectual الدور الاجتماعي والسياسي والثقافي في توفير ديناميات الثقافة المنفتحة في بناء مجتمع الذاكرة البشرية الطويلة الاجل و القادرة على استلهام الماضي للامساك بالمستقبل ،والتي جسدها فيلسوف ايطاليا أنطونيو غرامشي 1891-1937 الذي ميز بين نوعين من المثقفين “العضوي” و”التقليدي”: فالمثقفون العضويون نشأوا من طبقة اجتماعية محددة وعملوا على صياغة النشاط الإنتاجي لتلك الطبقة كمجموعة من المبادئ العامة وهم هنا يرسخون نقاء الذاكرة ومفاهيمها الطويلة البعد ، أما المثقفون التقليديون ، فإن جلهم من بقايا من مجتمع تاريخي سابق يكرسون الانغلاق الإديولوجي ليستحيلوا ذاكرة المجتمع نحو نسق عقلي احادي الابعاد قصير النظر شديد الانغلاق والتشوه.
ختاماً، فعلى الرغم من ذلك، هناك مفكرون يسعون لاستعادة الذاكرة التأريخية الحقيقية في المشرق عموما والعراق خصوصاً ومنهم على سبيل المثال حسين العادلي وابراهيم العبادي وعبد الحسين شعبان وقاسم حسين صالح ومزهر الخفاجي وفارس نظمي و عقيل الخزعلي واخرون علماء كرام يصعب حصرهم ، ممن يطرح ثقافة التعلم من التجارب الماضية لبناء مستقبل أفضل ، راسخ في ذاكرة الوطن والشعب البعيدة الاجل.