بقلم : فالح حسون الدراجي ..
في الأسبوع الماضي رحل الصديق والرفيق والزميل والاخ العزيز خيون التميمي ( أبو احمد). والمؤلم أن رحيله الذي جاء بسبب حادث سير في ولاية مشيغان الأمريكية، حيث يقيم منذ ثلاثين عاماً، كان صادماً للجميع، قياساً للظروف والتفاصيل التي صنعت الحادث الذي لم يكن في البال ولا في الخاطر ..
لقد أطفأ هذا الحادث الظالم شمعتنا المنيرة والكبيرة التي كنا ولم نزل بحاجة ماسة إلى ضوئها. وللحق، فإن أبا أحمد لم يكن شمعة مضيئة في طريقنا – نحن اصحابه- فقط، ولا في طريق النضال الوطني و الطبقي والديمقراطي فحسب، إنما كان شعلة وهاجة أنارت في وجدان وضمير كل من عرفه، وعرف حبه لوطنه وفكره، ونقائه، وتفانيه، ومثابرته ونشاطه، وطيبته التي لا مثيل لها في هذا الزمن القاسي والعجيب..
واليوم حين أكتب هذا المقال الافتتاحي عن فجيعتنا ووجعنا برحيله الدامي، فانا أدرك تماماً ان هذا المقال مهما كانت مساحته، وتأثيره، وحجم الالم المنبثق من كل سطر من سطوره، لن يفي بما أشعر، ولن يصل إلى بعض الأسى الذي استولى بقوة على قلبي وحواسي منذ سماعي نبأ رحيله، رغم أن القلب موجوع ومزدحم هذا الأسبوع بأنباء قاتمة ليس فيها سوى الموت والقتل والدم، والغياب المر، وقد كان آخرها نبأ رحيل أخي وصديقي، ابن العمارة، وشاعر ميسان الباهر نعمة مطر العلاف ..
لا ابالغ لو قلت إن فقدي وخسارتي برحيل خيون التميمي ربما تكون أكبر من خسارات الآخرين، وربما الأقسى والأبلغ في كل خساراتي الشخصية.. حتى أن الزميل والصديق عودة التميمي (أبو عبير)، قال لي حين اتصلت به مواسياً ومعزياً برحيل ابن عمه خيون التميمي : (انت يا أبا حسون أحق بالمواساة والتعزية منا، فهو صديقك ورفيقك وأخوك أيضاً) .. ومثل هذا الكلام قاله لي شقيقه الصديق العزيز نجاح التميمي ( أبو سلام) حين اتصلت به لأواسيه بهذا المصاب المؤلم.
وهنا أذكر قولاً كان يردده الراحل (أبو احمد ) على مسمعي دائماً:(لك يافالح أخ شهيد اسمه خيون الدراجي، وأخ ثان حي اسمه خيون التميمي..).
وبناءً على كل ذلك قررت أن لا يكون مقالي هذا (نعياً) أو رثاءً بفقد أخ غال وصديق عزيز فحسب،إنما هو محاولة أيضاً لوضع القارئ امام زاوية واحدة من زوايا المشهد الباهر لشخصية خيون التميمي، لاسيما وأن الكثير من القراء لايعرفون شيئاً عن هذا الكائن الجنوبي النبيل، الجميل، العذب والطيب جداً.. ولهم الحق في ذلك، فخيون التميمي لم يكن شاعراً ولافناناً ولا نجماً من نجوم الصحافة والإعلام كي يعرفه الجمهور، رغم أنه أصدر قبل رحيله بخمسة أشهر كتاباً بعنوان: (رحلة من سومر إلى أمريكا)، فضلاً عن أن الراحل أبا احمد لم يكن من هواة الظهور الدائم على شاشات التلفاز لسبب وبدون سبب، إنما كان يسعى دائماً لإظهار رفاقه وزملائه وتغطية أنشطتهم عبر وسائل الإعلام الشخصية المتاحة له، أكثر مما يفكر بظهوره الشخصي.. لذلك يتوجب عليّ هنا ان اتحدث عن عطاء خيون، ونضاله وغربته، وعذاباته، وعصاميته التي تستحق الدراسة والاقتداء والعبرة على الرغم من أنه لم يتوفر على مستوى عال من الدراسة، كما لم تتوفر له سبل العيش الرغيد، فقد ولد في أسرة تشبه ملايين الأسر الجنوبية البسيطة.. أب خياط، وأخوة صغار، وعائلة كبيرة، مما أجبره على الانخراط في الجيش مبكراً، ومن ثم التوجه الى ميدان النضال السياسي السري، فكان (جزاؤه) السجن والتعذيب في أقبية البعث المظلمة.. ولم يكن اندفاع ابي احمد في مجال العمل الوطني التقدمي غريباً عليه، فهو الابن الأكبر للخياط سعدون حبيب التميمي المعروف بوطنيته في ناحية گرمة بني سعيد التابعة لقضاء سوق الشيوخ في محافظة الناصرية.. وعلى الطريق الوطني المكافح ذاته، مضى شقيقه نجاح التميمي وبقية الأسرة، حيث كان لأبي احمد وأشقائه دور وطني بارز في انتفاضة آذار – شعبان 1991- وفي نشاطه الثر بمعسكر رفحاء.. والتحاقه آنذاك بإذاعة صوت العراق الحر ( المعارضة) التي كانت تبث من السعودية، بصحبة فنان الشعب فؤاد سالم والشاعر الفذ زهير الدجيلي، وداود الزبيدي..
ولأن في شخصية ومسار الراحل خيون التميمي مواصفات نضالية عديدة، وزوايا مضيئة وناصعة كثيرة، وعلامات ودلائل وعبر وقصص تستحق أن تذكر، فهو شخصية ليس من السهل حصرها في مقال واحد، لذلك سأختار لكم ملمحاً واحداً من ملامح هذه الشخصية الحميمية.. ويتلخص هذا الملمح في نقائه وطيبته الفريدة.
وحين اتحدث عن طيبته، لا أظن أن أحداً سيختلف معي حتى لو كان خصماً له، رغم أن خصومه قليلون جداً – قد لا تتعدى خصومتهم آفة الحسد والغيرة، أو ربما الخصومة السياسية-! نعم فالرجل طيب جداً جداً، ومن فرط طيبته (استطمعت) به الأقدار ، إذ لم ترحم به، ولم تمهله حتى التقاط انفاسه، فمن مصاب إلى مصاب، ومن قدر إلى قدر ، ولعل أقسى الأقدار كان في فقدان ولده البكر (احمد) بحادث سير في مشيغان قبل 18 سنة.. ورحيل ولده احمد لم يبكِ ويفجع والديه، وأعمامه فحسب، بل أبكى وأفجع العراقيين جميعاً في تلك الولاية الأمريكية.. وقد كنت واحداً من هؤلاء الباكين، حتى أني جئت من ولاية كاليفورنيا البعيدة جداً عن مشيغان لأحضر مراسم تأبينه، وأقرأ قصيدة تفاعل معها الحضور آنذاك، أذكر منها:
(ويگلولي اعله ياهو وليش الدموع.. وبعينك ذليلة وسايلة الدمعة..
اذا موش اعله احمد دمعك إيطيح .. چا گلي عليمن دمعك اتوگعه؟اشتريد تگول عن (احمود).. موزين ..؟!
ولا بيه العُگل والروس مرتفعة ..
ولا گلبه حنين ومرخص العين.. والبيده لاخوته وصحبته وربعه.. ولا حمّاي اخيته ابغابة البين.. وبجاله (شروق) تفوت متدرعة؟
اذا ربعه شمع وتضوي للناس.. حمد شمعة ويضوّي اعله الشمع شمعة …) الى آخر القصيدة..
وبعد عام واحد لا أكثر، فجع خيون برحيل ابن شقيقه الشاب الجميل سلام نجاح التميمي بحادث سير وفي ولاية مشيغان ايضاً .. وتتوالى الأقدار والمصائب على قلب ورأس هذا الرجل .. هي أقدار كبيرة، موجعة لايسع المجال لذكرها هنا حتى تنتهي برحيله هو شخصياً في حادث سير أيضاً، وبولاية مشيغان أيضاً..
لقد حدثتكم عن طيبته الفريدة، تلك الطيبة التي جعلت المصائب والاقدار
(تستطمع ) به، وتذيقه مر العذاب .. ولضيق المقال، لم أحدثكم عنها جميعاً، ولا أعرف كم مقال سأحتاج لو حدثتكم عن علاقتنا الرفاقية والأخوية، ومواقفه النبيلة معي، وأفضاله عليّ مذ ان وطأت قدماي ولاية مشيغان أول مرة قبل ربع قرن حتى يوم رحيله، ولا اعرف كم مقال ساحتاج للكتابة عن وطنيته وتقدميته ونضاله ومواقفه ( الديمقراطية )!